"دمعتان وبسمة" عزف سردي على أوتار الأمومة 

رواية كارم عبدالغفار تتمتع بتقنيات روائية عالية من حيث اللغة والأسلوب الأدبي، واستخدام أداة الراوي والمروى عليه في أفق الرواية.
الإهداء إلى سيدة نساء العالمين التي علمت النساء كيف يصنعن الرجال إلى أمنا خديجة رضي الله عنها
خديجة في وعي الرواية تمثل الأمومة ومعادل الوطن الموضوعي، ومانحة الدفء ومُورثة الحب

"الجمال بطبعه لا يُقنن له"، مقولة أطلقها الناقد د. محمد مندور عبر كتابه القيم "قضايا جديدة في أدبنا الحديث"، عندما تحدث حول الدور الشخصي للذوق والتأثر، وباعتبار ملكة التفكير والنقد تعمل علي تجسير العلاقة بين الذوق الذي هو عبارة عن المنتج الخاص، والمعرفة باعتبارها تمثل الشأن العام، باعتبار: "الذوق وسيلة مشروعة للمعرفة التي تصح لدي الغير بتبرير وتفسير الإنطباعات بحجج جمالية وفنية يقبلها الغير".
ومن هذا المنطلق نقارب الرواية القصيرة "دمعتان وبسمة"، للروائي كارم عبدالغفار، والرواية من كتب النفس الواحد، ما أن يمسك القارئ برواية من هذا النوع حتى تمتد تلك الأنامل السحرية للفن لتمسك به تمامًا ولا تفلته حتى الحرف الأخير، ويعود هذا التشويق - من وجهة نظرى - إلى تلك التقنيات الروائية العالية من حيث اللغة والأسلوب الأدبي، واستخدام أداة الراوي والمروى عليه في أفق الرواية، ومزج السرد بالحوار بالوصف في اتزان، إضافة إلى القيمة الموضوعية المهمة والشيقة والمعبرة عن أصول في الشخصية المصرية عريقة. 
هذا إجمال له التفصيل التالي: حيث تطالعنا صفحة الإهداء: "إلى سيدة نساء العالمين التي علمت النساء كيف يصنعن الرجال إلى امنا خديجة رضي الله عنها" (ص 5 الرواية)، لتؤكد على القيمة المحورية في الرواية، حيث إن شخصية الحدث الروائي الرئيسة هي "خديجة" الأخت الكبرى، أيقونة العطاء، والشمس الدافئة التي تدور حولها مدارات الشقيقين، وهما معًا الراوي المزدوج  للحدث بضمير المتكلم عبر التناوب بينهما وإن توحد المنظور، وهما أيضًا المتلقين لذلك الفيض الكريم. 

لو توقفت الرواية عند مشهد اللقاء التخيلي بين الشقيقين والراحلة الكريمة، وهذا الحضن الدافيء، لأنتجت الخاتمة الفنية المرجوة

حيث "خديجة" في وعي الرواية تمثل الأمومة ومعادل الوطن الموضوعي، ومانحة الدفء ومُورثة الحب، تزرع الرجولة، وتمد أسباب النماء في النفوس، وهنا نجد المرتكز القيمي الذي تستند إليه الرواية، والقائم برد الإعتبار للمرأة وتوضيح دورها الكريم في الحياة في ظلال التفاعل الإنساني، وأظن القارئ يستشعر حكمة الرواية تسقي ضياءها من نبض مقولة (زملوني .. زملوني)، يقولها إنسان العصر الحديث وهو يرنو إلى شاطيء الأمان.
وعبر التنقيب عن تقنيات القص الفني في الرواية التي بين أيدينا، خاصة فيما يتصل بقناع الروائي التي يتقنع بها، ويتخذها ستارًا فنيًا براقًا يحقق به قصديته، نجد تعدد الأصوات الساردة بضمير المتكلم الذي يصف مشاعره ويستبطن ذاته، ويعبر عن مواجعه وآلامه وبما يناسب أجواء الفقد من جانب السارد الثنائي "جاد / حسين" للإخت الكبري "خديجة"، منتجه أثرها الدلالي حول العاطفة التي يكنها هذا السارد للملهمة الأم الحانية (خديجة). 
تعدد الأصوات الساردة لا يعبر عن وجهات نظر متباينة، بل وجهة نظر واحدة كالبلورة أو الماسة لها أوجه براقة متناظرة، أو بعبارة أخرى عزف سردي عبر وتر وحيد يمثل الأمومة الغارسة للقيم، ومعمرة الحياة بالجمال والحب.
والمروى عليه "رجال الإعلام" الغائب عن المشهد الروائي في لحظة السرد الحاضرة، حيث اتفق الشقيقان أن ينتظر رجال الإعلام ساعة من الزمن ليسطرا بالكتابة بواعث الناجح، ويعبرا بالحكي عن رحلة  البطل الأصيل وراء ما قاما بتحقيقه من إنجاز طبي كبير، هنا المروي عليه سيتحقق دوره لاحقًا بعد ختام الرواية، بل سيتغير دوره ليكون هو الراوي عبر وسائط الإعلام، وكأنها سلسلة من الحكي للعبرة الخالدة.
والرواية عامرة بعبارات كاشفة في حكمة مصفاة مستمدة من ضمير جمعي قد يُصاغ حينا في شكل مأثورات شعبية متعارف عليها وذائعة الصيت، لكن بأسلوب أدبي يتسم بالصفاء. أو خلاصة مقطرة من تجارب الحياة، والتالي شواهد يسيرة تمثل عينة من مجتمعها الروائي الكلي، وجميعها مستمدة من منبع الإلهام (خديجة) عبر مواقف تربوية مؤثرة:
"في كل سبيل نحو الإبتسام لا بد أن يدفع الإنسان ضريبة من الألم، حتى يقدر نعمة الابتسام، ولا يفرط في بسمته" (ص 13 الرواية)، ونجد تناصًا واضحا في نصب ميزان الاعتدال عبر الحكمة الداعية للاقتصاد في المشاعر بين الأفراح والإتراح. 

رواية رومانسية
الإيهام بالواقع 

"القوة وحدها لا شيء، إذا لم تحطها رجولة، فترشدها" (ص 24 الرواية)، هنا أيضًا ميزان الاعتدال باعتبار الفضيلة وسط بين رذيلتين.
"وهى تقول: قالت لي جدتي يوماً: الفائز في دنياه من يجيد لعبة الصبر، والفائز في آخرته من يجيد لعبة الصبر، والأبله المضيع للاثنين الذي يقول: أحيني اليوم في النعيم وابعثني غدا في الجحيم" (ص 26 الرواية)، وهنا في تلك النافذة المضيئة للنص نجد توريث الحكمة عبر رحلة الأمومة، كما نجد التناص مع مقولة شعبية تصف التواكل (أحييني النهاردة وموتني بكره)، هنا نجد نحت الروائي للعبارة الشائعة إلي لغة أدبية راقية، ليمثل دور الأديب في الرقي باللغة دون أن يفلت المعني المستهدف في شيء منه.
وفي عبارة لافتة أخرى "تعلمت أن الإنسان في حاجة إلى عضلات أخرى غير تلك المفتولة في عضديه وساعديه، في حاجة إلى عضلات في روحه تمكنه من التصدي لسهام الإيذاء التي لا بد أن يتلقاها ممن حوله، من الناس، من الزمان، من المكان، حتي من الجمادات" (ص 52 الرواية)، وبعدها بقليل تعبير ملخص آخر يشبه حقيقية أن الأرض بيضاوية الشكل "ولكن ما البشر إلا وتر مشدود علي عود الحياة"، عبارات كاشفة عن حس غامر يتناص مع الآية الكريمة "لقد خلقنا الإنسان في كبد"، ومع النص الشريف "من يخالط الناس ويصبر علي آذاهم ..."، ويمكن لقارئ الرواية أن يستخرج لائحة ممتازة من تلك العبارات المضيئة.
أمر آخر تكامل عبر الشكل الفني والمضمون ذاته، فكما أشرنا سابقا نحو النسيج السردي المتتابع عبر أصوات متعددة تأخذ برقاب بعضها البعض بإجراءات للتسليم والإستلام، نجد على مستوى المضمون، أجيالا من الأمومة الراعية الحانية عبر ثلاثية "الجدة / الأم / الأخت الكبري"، عبر الحوار التالي:
"- ستصيرون رجالا يا رجالي؟
 فنجيب كأننا تلاميذ تعلمهم: سنصير رجالا يا امه خديجة
-    هل فهمتم درس الجدة جيدا؟
-    نعم فهمنا يا جدة خديجة) ( ص 71 الرواية)
وعبر النسيج الروائي نجد دائرية الحكي، من خلال قصة النتيجة التي تبدأ بمشهد الختام ثم ترتد عبر تقنية الاسترجاع كي تزيل الأستار رويدا رويدا عن مسرح الحياة، ثم لا تلبث أن تدعو القارئ أن يبدأ الحكي من جديد، بتمثل المعرفة وإنتاج القيمة علي مستوي الفعل: "قصة صبر .. أو موال من الألم .. لا.. لا.. بل هي قصة حب.. قصة حب غير عادية.. ستعلمون بعض تفاصيلها في هذه الأوراق.. وستعلمون كل تفاصيلها إذا فتشتم في شوارع مصر وحواريها ونجوعها" (ص 81 الرواية)
بقي أن نشير من أفق الرواية الرومانسية الممتعة، أن نشيد بالإيهام بالواقع عبر تذييل أخير بتوقيع السارد المزدوج (د. جاد رزق محمد سالم، د. حسين رزق محمد سالم)، مع كتابة التاريخ، لكن نقف قليلًا أن الروائي حيث أراد أن يغلق الرواية انزلق إلى خطاب وعظي مباشر في الصفحة الأخيرة من الرواية (ص84 الرواية)، ولو توقفت الرواية عند مشهد اللقاء التخيلي بين الشقيقين والراحلة الكريمة، وهذا الحضن الدافيء، لأنتجت الخاتمة الفنية المرجوة.