"دهشان" سرد الحلم .. دائرية الحكي  

في رواية عبدالمنعم شلبي نجد شاعرية النص، وإحداث المتعة لدى القارئ من خلال نسيج الرواية الكلي.
رغم أن الثوب الحكائي ثوب خيالي، لكنه في الحين نفسه واقعي أشد ما تكون الواقعية
الروائي عمد إلى بث مستوى الرمزية المعبرة

أصبح اتساع مناطق التماس بين الأنواع الأدبية حقيقية ماثلة في الواقع الأدبي، حيث يقوم الروائي المعاصر بتخصيب مادته الروائية بروافد من فنون شتي. وفي رواية "دهشان" للروائي عبدالمنعم شلبي نجد شاعرية النص، وإحداث المتعة لدى القارئ من خلال نسيج الرواية الكلي، مع اعتماد التلخيص في النقاط المفصلية بالرواية، والرمزية المعبرة التى لا تنزلق إلى مهاوي الغموض، والتناص، والمقابلة، والاعتماد على دلالة الأسماء، والأحداث الدائرية، وسرد الحلم، الأمر على تفصيل.  
لا شك أن "الحدوتة" هي المادة الخام للرواية، حيث هي أقرب لطريقة الحكي في ألف ليلة وليلة، والعديد من المفردات في نسيج الرواية تؤكد على ذلك في دلالة واضحة، مثال ص 18: "فتاة أبهي من البدر .. ابنة شهبندر التجار". 
ومغامرات بطل الحدث الروائي وهو يبحث عن جذوره وأهله، وفتوته بما يذكرنا بالشاطر حسن .... إلى آخره. وكانت "الحدوتة" هي أداة الروائي في إحداث التشويق، وهو في ذلك يعي تمامًا أن خط الحدوتة هو محور فنون القص – في رأي - ومدار الذائقة العربية دائمًا. 
ومن الصحيح أن ألوان السرد الحكائي كثيرة، لكن ليست هي القصة القصيرة والرواية بشروطهما الفنية ونضجهما المعاصر وفقط، فالحدوتة هي الخامة الأدبية الأولى في كتابة القصة، والرواية بين أيدينا حكاية اكتمل لها النضج الفني، أراد لها الروائي أن ترتدي ثوبها هذا لتقترب أكثر من المشكلات الحياتية، وأزماتها الاجتماعية. 

الروائي في تعبيره عن الواقع يستخدم تقنية الحلم بمهارة تبدأ من الدائرة الروائية الأولي بالتعبير عن الحلم السلبي

والرواية من النصوص التي تحمل رمزية معبرة سواء علي مستوى الأسماء أو الأحداث، فرغم أن الثوب الحكائي ثوب خيالي،  لكنه في الحين نفسه واقعي أشد ما تكون الواقعية، فالروائي عمد إلى بث مستوى الرمزية المعبرة، وإذا كان بعض الأدباء يعمد إلى الغموض في كتابته باعتباره ملح العمل الأدبي، لكن هناك التحفظ حول هذه المقولة، إلا إذا كان في إطار "الغموض الشفيف"، أي هذا الغموض المؤقت والذي يزيل فيه الروائي عن حقائقه الروائية الأستار رويدًا رويدًا، أو يمنح للقارئ مفاتيح التأويل لما بثه من رموز في مجتمع الرواية. فالرمز هو أداة الأديب المثالية لتحقيق الأدبية في نصه، لكن المنتقد بحق هو الرمزية المفضية إلى الغموض الثقيل والذي يتحول معه النص إلى طلاسم وأحاجي مجهدة. واستعمل الروائي  الرمزية المكثفة، والتي يمكن ترويضها، والفطنة لمفاتيح شفرتها الهادية، باعتماده أسلوبين خالصين لتحقيق الإرتداد المقصود لواقعية النص، وتأكيد الحدث الدائري في الرواية، ومنح القارئ مفاتيح تعينه على اكتشاف مرمى الكتابة وجوهر الرواية. من خلال تقنية التلخيص الروائي، وظاهرة التكرار. 
خلال النسيج الحكائي نجد أن الروائي يفصل بين أحداثه الدائرية بفقرات ملخصة بحيث لا يدع القارئ يفلت منه أو تتشابك به خيوط الأحداث، ففي نقاط مفصلية في السرد يعمد الروائي لتقديم ملخص لما سبق من أحداث، ويذكرني ذلك بطريقة الصحف في تقديم ملخص ما سبق نشره في حال نشر النص أو التقرير الصحافي منجمًا عبر سلسلة من الحلقات.
أما ظاهرة التكرار فتبدو من خلال تكرار أحداث الرواية في صورة دائرية بحيث يمكن أن نغلق الحدث علي دائرتين (دهشان / التاجر / نوران / حالم)، وأخرى: (دهشان / سيادة الرئيس / نوارة / نور). وبالطبع هذا جميعه يدور في دائرة كبري جامعة: (دهشان / الأب / التيه / قرية الغرباء)، وتلك الدوائر تكتنفها فقرات مفصلية يعمد الروائي إليها، وغالبًا ما تكون فقرات ملخصة لما سبقها، بالتالي تحققت ظاهرة التكرار (الاستنساخ الروائي)، والتي تعني حكاية ما حدث بالرواية بأكثر من صيغة، والتكرار أصبح من سمات الرواية الجديدة، لدرجة ان بعض الروائيين يكرر فقرات بأكملها وبحذافيرها في أعمالهم، بما يعني تكرار مواقف الحياة.  
إذا تذكرنا المقولة التي تشير إلي أن الأديب هو نصه، وأن الدوافع وراء كتابته هي التي تشكل رؤيته الفنية، فيتقنع وراء الراوي – بأصواته وضمائرة المنوعة - اتضح لنا مستوى التناص في الرواية والذي يظهر بجلاء وقوة من هذا الزخم الدلالي بالإستعانة بمفردات كاملة من القرآن الكريم، والفكر العربي والإسلامي بعامة، والروائي هنا يعبر عن أمله وألمه بأحوال أمته، ويعبر بقوة نحو إنتمائه إليها، وتأثره بمنابعها الثرية من النصوص الشريفة. 
وتتعدد مستويات هذا التناص سواء للنصوص الشريفة، أو للموروث الشعبي، فالتناص مع القرآن الكريم في أنحاء الرواية جميعا، فشخصية "دهشان" الشخصية المحورية في الرواية تتناص مع شخصية نبي الله موسي - عليه السلام - حيث يتمتع "دهشان" بالفتوة وينقذ "داير الناحية" من البلطجية، ويلتقي مع التاجر في دائرة الرواية الأولي ويتزوج ابنته "نوران" وينجب منها ابنه "حالم"، كما التقي "سيادة الرئيس" ويتزوج ابنته "نواره" وينجب منها ابنه "نور". ونموذج آخر للتناص مع آيات القرآن الكريم: "ولما لم يجد نوران عاد إلي كورنيش النيل وألقي الفارس هناك وانصرف وهو يقول لدهشان: هذا فراق بيني وبينك!!". 

رواية مصرية
حقائق روائية 

ورغم أن التناص يفطن إليه القارئ بيسر، لكن الروائي لا يطمئن إلا بإيراده صراحة وتكرر هذا أكثر من مرة، في إدراج الآية الكريمة الوحيدة المشكلة في الرواية من سورة القصص: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، او إدراجه نص الحديث الشريف صراحة: "الناس نيام فإذا ما ماتوا انتبهوا". 
وقد اعتمد الروائي بصفة أساسية علي قصة سيدنا موسي - عليه السلام - سواء في خروج بطل الحدث القصصي إلى التيه، أو في لقياه "الرجل الصالح" وزواجه بابنته، أو بسداده المهر من خلال قيامه بالخدمة، أو حتى في الدعاء الحار الذي يرنو به داعيا ربه: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}. 
والأدلة نحو التماس مع النص القرآني والفكر العربي كثيرة، منها أيضًا:  
-    {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} الكهف 28.
-     كما أشار على المستوي الفردي من خلال لجوء بطل الحدث القصصي "دهشان" للصلاة والدعاء، وهذا التناص يشير بصفته غير المباشرة لحديث الرسول - صلي الله عليه وسلم - "أرحنا بها يا بلال".
-    كما توجد مقولات من الحكمة تبطن السرد، يفطن لها القارئ ولو لم تقل صراحة، (نموذج ص 29 الرواية): "وهل يكون غريبًا من يحتويه حضن دافئ مترع بالحنان والحب"، فيذكرنا هذا بقول الإمام علي – رضي الله عنه -: "يا بني الغريب من ليس له حبيب"، وقول الشاعر: "لا من ترك بلاده قد أغترب / ولكن الغربة في البعد عن المحبينا".
ورغم كون الحدث الروائي يدور في إطار خيالي علي نسق قصص ألف ليلة وليلة، لكنها في الوقت ذاته يعبر صراحة عن الواقع السياسي والاجتماعي، بطريقة الروائي والتي يعمد فيها للإشارة لهدفه أو مقصوده الرمزي، بحيث لا يفلت منه ذهن القارئ، أو تستغرقه صورة الحدث الخيالي عن الهدف المباشر، وكان المكان الروائي من وسائط الروائي في تحقيق هذا المعني، فالإشارة بالأسماء الصريحة إلي: داير الناحية، إمبابة والوراق: "مشي في طريقه متتبعا طريق النهر. ولما عبر إمبابة والوراق وهده التعب .."، القناطر الخيرية.
والروائي في تعبيره عن الواقع يستخدم تقنية الحلم بمهارة تبدأ من الدائرة الروائية الأولي بالتعبير عن الحلم السلبي: "أنت تدعي النوم! تهرب من مواجهة المواقف المفاجئة. بدلا من ان تحاول فك غموضها. تهرب منها!! أنت يا دهشان رجل ضعيف. تنقاد لخيالات وأحلام وأوهام بعيدة عن قدراتك الحقيقية". ليحيا بطل الحدث القصصي  أزمته الخاصة في ضياعه في التيه وبحثه نحو سبل الخلاص بعودتة إلي قريته الغرباء.