دولة فاشلة ضد شاعر كبير

ما لا يفهمه وزير الثقافة العراقي أن سعدي يوسف ليس شخصا لكي يُهاجم.
الشعراء باقون والدول الفاشلة الى زوال
شعر سعدي يوسف ملك وإرث عاطفي للعالم كله
أزمة اخلاقية وقعت فيها الحكومة العراقية وهي تصب اللعنات على الشاعر الذي لم يكن طرفا في الأزمة

إذا كان العراق "من خلفه تجاوزا العراقيون" قد صنع عالما إنسانيا واخلاقيا وسياسيا واقتصاديا خاصا به هو عبارة عن كون مغلق صغير تقع فيه الانفجارات بشتى أنواعها من غير أن تحرك فيه ساكنا بسبب غطاء الفساد السميك الذي فشلت المحاولات الحثيثة في اختراقه فإن صب اللعنات من قبل جهة رسمية على شاعر كبير هو بمثابة صفعة للعالم الحر لما له من تداعيات على مستويات خطيرة تخرج عن نطاق ما يراه العراق مناسبا له.

فسعدي يوسف الذي هوجم من قبل وزير الثقافة العراقي في بيان فريد من نوعه في التاريخ الأدبي المعاصر من جهة ابتذاله في موضوعه وخروجه عن دائرة السائد والمعروف عن علاقة السلطة بالثقافة والمثقفين ليس شاعرا عاديا ولا مُلكا للعراق وحده ولا جزءا من الارث الوطني الذي سطت عليه الاحزاب بعد أن مكنها المحتل الأميركي من الاستيلاء على العراق.

سعدي يوسف شاعر عربي هو مُلك العالم كله. شعره هو ارث عاطفي للبشرية كلها وليس في إمكان جهة مهما كانت سطوتها أن تدعي احتكاره أو التحكم به أو حتى الحكم عليه. لقد عاش الشاعر حياته كلها منفيا ومشردا وهاربا ونافرا وصعبا من أجل أن يعطي الحرية حقها وأن يخلص إلى قيم الخير والعدالة والانصاف والمساواة والصدق والوفاء وهو من القلة المثقفة النادرة في عالمنا العربي التي تجاهر بعدائها لقيم الشر والخيانة والكذب واللصوصية والوصولية والخداع والتحايل والقبح.

لذلك كان ومنذ اليوم الأول للاحتلال الأميركي شخصا مزعجا بالنسبة لأتباع وذيول وخدم ذلك الاحتلال. كتب بضمير مرتاح وروح نقية عن وطن تم تدميره وخُطفت أجياله المقبلة ونُشرت فيه ثقافة الاحتلال والفساد معا. لم يخذل سعدي السياسي سعدي الشاعر. كان وفيا لسيرة الشعر، لنظافته وصفاء سريرته وعمق خياله وفي المقدمة دائما إنسانيته. "أيخون إنسان بلاده؟" كان ذلك السؤال السيابي يضرب بجناحي عصفوره أهداب عيني الشاعر حين يصحو وحين ينام وكان يتعذب وهو يرى "مثقفين" عراقيين يمارسون الخيانة جهارا من غير أن يستتروا.   

شخصيا لقد كان الموقف العظيم الذي اتخذه سعدي من الاحتلال والاحزاب والجماعات والمثقفين التابعين سندا قويا لي وأنا أشعر بأن غربتي تضاعفت وصارت تثقل على كل حواسي بعد أن رأيت صفوف الذاهبين بلهفة إلى احضان الخيانة واضعين أنفسهم في خدمة المحتل وثقافته. لم يكن سعدي يوما شخصا متمردا حسب بل كان ضمير أمة. وإذا ما كنت قد أحببته شاعرا في كل أحواله الأسلوبية وهو شاعر انقلابي لا يتكرر فقد كان لفيض إنسانيته وهي تتدفق داخل روحي الوطنية أثر لا يمكن إنكاره أو اخفاؤه في إعادة صياغة طريقة نظري الوطنية.

كتب سعدي بلغة مقتضبة ومشدودة ومتوترة جملا قليلة يمكن اعتبارها بيانا هو بمثابة خلاصة لكل نظريات الحكمة والنبوة والوعد الحق والشرف والمروءة والاخلاق الحميدة. لم يخش في الحق يومها لومة لائم كما يُقال فسمى الأشخاص بأسمائهم وأشار إلى الأفعال من غير مواربة. تكلم سعدي كما لو أن القيامة قد قامت وانتهى كل شيء. كانت القيامة قد قامت بالنسبة لسعدي فعلا.

أعود إلى الأزمة الاخلاقية التي وقعت فيها الحكومة العراقية وهي تصب اللعنات على الشاعر الذي لم يكن طرفا في تلك الازمة. لقد استغل وزير الثقافة الذي يُقال إنه ناقد أدبي، مرض الشاعر فنشر رسالة موجهة إلى وزارة الخارجية يطلب فيها أن يقوم السفير العراقي في لندن بزيارة الشاعر بعد أن غادر المستشفى. خطوة استعراضية لم تدم نشوتها سوى يوم واحد أو أقل حتى نشر الوزير اعتذارا يعترف من خلاله أنه أخطأ في حق المبادئ والقيم الدينية والوطنية والإنسانية حين كتب رسالته الأولى. غير أنه لم يكتف بذلك الاعتذار المخزي بل توسع في توجيه شتائم واتهامات إلى الشاعر مستعينا أحيانا بعمى الناقد الأدبي.

تلك سقطة كان من المتوقع أن يخفف من وطأتها رئيس الحكومة الذي سبق له وأن عمل صحفيا بلندن لولا كارثة الفساد الجديدة التي عصفت بالعراق حين احترقت مستشفى ابن الخطيب بمرضاها. كان القدر قاسيا في جوابه على كل ما اعتذر منه وزير الثقافة من قيم عليا هي في حقيقتها أكثر القيم انحطاطا في تاريخ البشرية وهي القيم التي أدت إلى أن يتحول المرضى إلى رماد.

ما لا يفهمه وزير الثقافة أن سعدي يوسف ليس شخصا لكي يُهاجم. إنه قيمة إنسانية عليا، مكانتها لا تؤهل كل إنسان إلى الوصول إليها والتواصل معها فكيف النيل منها ومحاولة تصغيرها. لا أريد هنا أن أفرض على الآخرين رأيا شخصيا وأقول إن سعدي هو أكبر شاعر عربي. ذلك قول لا قيمة له في مقابل التأثير العظيم الذي مارسه سعدي يوسف على الشعر العربي ابتداء من سبعينات القرن الماضي.

قد لا يكون سعدي سعيدا في أن تحاربه دولة فاشلة يعمها الفساد غير أن سعادته ستكون أبدية بسبب الأثر العاطفي النبيل الذي تركه شعره في النفس البشرية. كل ذلك هو مصدر قوته. فالشاعر يبقى اما الدول الفاشلة فإنها تزول.