ديبلوماسية "ألف ليلة وليلة"

حبذا لو تتفادى فرنسا سنة 2021 تكرار الخطأ الأميركي سنة 1976، وتعفينا من مقاومة جديدة. إيران لن تتغير وآخر ما تستحقه هو صك براءة من فعلها في لبنان.
لا يعارض اللبنانيون بالمبدأ سعي باريس إلى تحسين علاقاتها مع إيران إذا صدقت في وعودها لماكرون
اللبنانيون سيرفضون أي تسوية دولية أو إقليمية تضحي بمصلحة لبنان وبوجوده الحر

لم تنتظر إيران الاتصال بين رئيسها الجديد إبراهيم رئيسي والرئيس إيمانويل ماكرون، لتدرك مدى حظوتـها لدى فرنسا. منذ العهود الملكية والحملات الصليبية، وبلاد فارس جزء من الذاكرة التاريخية الفرنسية. الملك لويس الرابع عشر استقبل في 19 شباط/فبراير 1715 سفير السلطان حسين صفوي في قصر ڤرساي. فلاسفة ورحالة وأدباء وشعراء فرنسيون كتبوا بإعجاب عن تلك البلاد التي "لا تنتشر في مروجها سوى الورود" (ديدرو)، و"بلاط سلطانها يفوح عظمة أكثر من الباب العالي العثماني" (ڤولتير).

وإذا كان الفرنسيون انتظروا حملة بونابرت إلى مصر سنة 1798 ليبالوا مباشرة بالتراث المصري، فاكتراثهم ببلاد فارس تنامى منذ القرن السادس عشر، وتعزز في القرون التالية، لاسيما في عصر الأنوار مع ڤولتير ومونتسكيو وديدرو وشاردان وغالان، إلخ... لكن السياسة لم تواكب المسار الأدبي، ففرنسا كانت مرتبطة باتفاقات وامتيازات مع العثمانيين، من بينها الحق في حماية مسيحيي الشرق. ولـما أقدم الملك لويس الثالث عشر نحو سنة 1640 على عقد اتفاقات تجارية مع الشاه عباس الصفوي وضمنها حق حماية مسيحيي بلاد فارس، أفشلها العثمانيون.

كون المجتمع الفرنسي، السياسي والنخبوي، هذه الصورة شبه الرومانسية لأنه تعرف على بلاد فارس من خلال الأدباء والرحالة الذين كتبوا عن أبـهة سلاطينها وانفتاح شعبها، عن قباب جوامعها الزرقاء والسمراء، عن البذخ والليالي الصباحية، عن قصص "ألف ليلة وليلة"، عن شهرذاد وشهريار. حتى أن ممثلي فرنسا وتوسكانا حاولوا إقناع أمير جبل لبنان، فخرالدين المعني الثاني، بالتحالف مع الفرس سنتي 1607 و1634، فتحفظ خشية إثارة العثمانيين الذين وسعوا سلطة المعنـيين من أعالي الشوف حتى صيدا ومحيطها الجنوبي لمراقبة صفويي البقاع الشمالي وشيعة بني عامل في الجنوب ومنع اتصالـهم بإيران.

ظلت صورة بلاد فارس جميلة في مخيلة الفرنسيين إلى أن راح المؤرخون والباحثون يتناولون الوجه العسكري والدموي للإمبراطوريات الفارسية واضطهادهم مسيحيي جورجيا والأرمن، واجتياحهم أفغانستان وشعوبا أخرى في آسيا الوسطى. رغم ذلك، ظل الفرنسيون يتمايلون بين بلاد فارس الحضارة والآداب، وبلاد فارس الحرب والعنف. لم تحسم فرنسا خيارها النهائي حتى بعد انتصار الثورة الخمينية سنة 1979 لأن هناك بلاد فارس أخرى هي آبار النفط والمشاريع الكبرى والأسواق التجارية الواسعة.

في الخامس من أيلول/سبتمبر الجاري، والمفاوضات الأميركية متعثرة في ڤيينا، أبلغ الرئيس الإيراني رئيسي الرئيس الفرنسي ماكرون في اتصال هاتفي "ضرورة تأليف حكومة لبنانية قوية". ساد فرح عظيم في قصر الإليزيه حتى أن مسؤولا فرنسيا رفيع المستوى تبرع من أموال "سيدر"، وأعطى براءة ذمة لإيران من أزمة لبنان الحكومية (رسالة رندة تقي الدين من باريس ــــ "النهار" 06 أيلول). لا نشك لحظة في نية فرنسا الحسنة تجاه لبنان، ونثق بأنها ستبقى إلى جانب لبنان وشعبه حتى يخرج من مـحنته. لكن، كم من الأخطاء القاتلة وقعت باسم النيات الحسنة وبسبب عدم استيعاب خصوصيات الأمم؟ وأصلا، جميع مشاكل لبنان الداخلية والإقليمية نتجت عن صراع بين النيات الحسنة والنيات السيئة.

سنة 1976 ظنت الولايات المتحدة أن تكليف النظام السوري الوصاية على لبنان يوقف الحرب ويعيد الاستقرار إلى البلاد. تبين لاحقا خطأ ذاك الخيار الحسن النية، إذ تحولت سوريا قوة احتلال عن سوء نية، فكانت الحروب، وكانت المقاومة اللبنانية بقيادة بشير الجميل بنية التحرير. حبذا لو تتفادى فرنسا سنة 2021 تكرار الخطأ الأميركي، وتعفينا من مقاومة جديدة. ترتكب فرنسا ذنبا تاريخيا إذا راهنت على أن شراكة مع إيران في الوصاية على لبنان تنهي الأزمة ويعود لبنان سيدا مستقلا ومستقرا. هذا مشروع حرب لا مشروع سلام، إلا إذا كان التفاهم بينهما يترجم بإرسال قوات فرنسية مؤقتة إلى لبنان لتطبيق القرارات الدولية التي كانت فرنسا عرابة العديد منها، وفي طليعتها القرارات 1559 و1757 و1701 (من أين لنا هذا؟)

لا يعارض اللبنانيون بالمبدأ سعي باريس إلى تحسين علاقاتها مع إيران إذا صدقت في وعودها للرئيس ماكرون. لكن اللبنانيين يتوجسون من أن يأتي تحسين العلاقات الفرنسية/الإيرانية على حساب لبنان نظرا لوجود مشروع إيراني يشمل السيطرة على لبنان. بالنسبة إلينا، سنرفض أي تسوية دولية أو إقليمية تضحي بمصلحة لبنان وبوجوده الحر، وسنقاومها بكل ما تعني كلمة مقاومة، والباقي يأتي...

مجمل التطورات الفرنسية/الإيرانية يكشف أن إيران: 1) تتدخل في القضايا اللبنانية، ولا تقيم شأنا للشرعية اللبنانية، وأنها الجهة الأساسية التي تـحول منذ ثلاثة عشر شهرا دون تأليف الحكومة. 2) لا تسعى إلى خلق شراكة مع فرنسا في لبنان، إنما إلى استجرار تغطية فرنسية لتدخلها في لبنان وسيطرة حزب الله عليه (هكذا فعل النظام السوري مع أميركا بين 1976 و2005). 3) تحاول من خلال التقارب مع فرنسا، وتاليا مع الاتحاد الأوروبي، تعطيل العقوبات الأوروبية الجديدة، والالتفاف على الولايات المتحدة والرد على تشددها في محادثات ڤيينا حيث ربطت واشنطن الاتفاق النووي بحسر دور إيران في دول الشرق الأوسط، وبخاصة في سوريا ولبنان.

إن اعتراف فرنسا بدور إيران في لبنان هو توطئة لإشراكها في أي مؤتمر دولي بشأن لبنان، أو في أي مؤتمر لبناني برعاية دولية على غرار إشراكها في المؤتمرات المتعلقة بالعراق. منذ أن سيطرت إيران عبر حزب الله على لبنان انهارت الدولة، وعجزت أن يكون دورها بديلا عن الاتحاد الأوروبي وأميركا وصندوق النقد الدولي والدول المانحة ومؤتمر سيدر والأمم المتحدة. لذا، يبدو غريبا أن تعترف فرنسا رسميا بدور إيران في لبنان من دون أن تكشف لنا ماذا حصلت للبنانيين، وليس لها، من إيران؟ وما هي نقاط التفاوض بشأن لبنان؟ إذا كان اعتراف فرنسا بدور إيران في لبنان ناتجا عن وجود حزب الله فيه، فيعني أن فرنسا تعترف استطرادا بسلاحه. خطورة مثل هذا الاعتراف أنه ليس على حساب الأطراف اللبنانية الأخرى فقط، بل على حساب دولة لبنان. حينئذ لا يبقى أمامنا سوى تلبية نداء: لبيك لبنان.