رؤية متكاملة على القضاء القبلي في اليمن قبل التفكك

دراسة د.رشاد محمد العليمي تشكل مرجعا مهما في معرفة القضاء القبلي في المجتمع اليمني والعوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى استمرار العرف الخاص بحل النزاعات في المجتمع تعايشا مع الشريعة الإسلامية طوال الفترة التاريخية الممتدة لأكثر من ألف عام.

تشكل هذه الدراسة عن القضاء القبلي في اليمن والتي حصل بموجبها د.رشاد محمد العليمي على درجة الماجستير من كلية الآداب جامعة عين شمس عام 1984 مرجعا مهما في معرفة القضاء القبلي في المجتمع اليمني، والعوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية التي أدت إلى استمرار العرف الخاص بحل النزاعات في المجتمع اليمني تعايشًا مع الشريعة الإسلامية طوال الفترة التاريخية الممتدة لأكثر من ألف عام. هذه الدراسة التي اقتصرت وقت إنجازها من 1981 إلى 1984، على المحافظات الشمالية والغربية والوسطى من اليمن، كون اليمن كان دولتين شمالية وجنوبية، وبعد توحيد الدولتين تمكَّن العليمي من توسيع دراسته لتشمل المحافظاتالجنوبية والشرقية التي كانت خاضعة لما عرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لذا فإن هذه الطبعة من الدراسة الصادرة حديثا عن مؤسسة أروقة بالقاهرة تقدم رؤية متكاملة أيضا إلى حد بعيد لقواعد العرف الخاصة بحل النزاعات في اليمن شماله وجنوبه.

يقول العليمي "كان هذا السؤال محور التساؤلات الفرعية الخاصة بالدراسة التي أُنجزت خلال المرحلة من 1981 إلى 1984، وفي هذه الفترة كانت الأوضاع اليمنية قائمة على وجود دولتين: الجمهورية العربية اليمنية وتشمل المحافظات الشمالية والغربية والوسطى من اليمن، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وتشمل المحافظات الجنوبية والشرقية من اليمن واللتين أصبحتا بعد عام 1990 الجمهورية اليمنية بعد دمج الدولتين المشار إليهما في دولة واحدة ولم يكن بالإمكان حينها إجراء الدراسة على الجزء الجنوبي والشرقي من اليمن؛ نظرا للصراع القائم بين النظامين السياسيين، فاقتصرتُ على المحافظات التي تدخل ضمن نطاق الجمهورية العربية اليمنية، وبعد توحيد الدولتين تمكَّنتُ من توسيع الدراسة لتشمل المحافظات التي كانت خاضعة لما عرف بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وخصِّصَ الفصل الرابع من هذه الطبعة لقواعد العرف الخاصة بحل النزاعات في تلك المنطقة".

ويتابع "حيث اتضح أن المحافظات المجاورة للمحافظات الشمالية والوسطى من اليمن تتفق فيها قواعد حل النزاعات العرفية، مع تلك الواردة في الدراسة الأصلية حول المحافظات المجاورة لها والتي تشمل، محافظة لحج، ومحافظة أبين، ومحافظة شبوة، ومحافظة الضالع ومحافظة لحج إلا أن محافظة حضرموت اتسمت بالتميُّز من حيث الشكل لا المضمون، أو التسميات؛ لذلك خصِّصَ جزء كبير من الفصل الخاص بالمحافظات الجنوبية والشرقية لمحافظة حضرموت؛ لدراسة تلك القواعد في هذه المحافظة؛ نظرا لما اتسمت به حضرموت من تراث ثقافي عرفي يختص بحل النزاعات، وبخاصة منطقة الوادي المتاخمة للمنطقة الصحراوية وامتداد لصحراء الربع الخالي، وما شهدته هذه المنطقة من عزلة تاريخية امتدت لفترات زمنية طويلة حتى القرن العشرين حيث نشأت الدولة الكثيرية، والدولة القعيطية التي أحدثتْ تغييرات اجتماعية، وثقافية بدعم وحماية ومساندة من الاستعمار الإنكليزي في عدن".

ويضيف العليمي "لم أتمكن من الحصول على ما كُتب عن محافظة المهرة، كما لم أَتمكن من مقابلة بعض العارفين أو مشايخ قبائل من المهرة رغم علاقتي ببعض تلك الشخصيات أمثال محمد علي ياسر عضو مجلس النواب الذي أصبح محافظا للمهرة عام 2019م إلا أن ظروف الحرب وعدم توافر ظروف للتواصل المباشر حالت دون التعرض لوضع طريقة حل المنازعات العرفية في محافظة المهرة. ولعل بعض الباحثين في المستقبل سيقومون بعمل دراسات عن الأعراف في محافظة المهرة التي تحتاج فعلا إلى مزيد من الدراسات لتراثها".

ويرى أن الإضافة التي ألحقها بالدراسة في هذه الطبعة تحقيق عدد من الأهداف منها:أولا: تضمين هذا الكتاب فصلًا عن حل النزاعات وفقًا للقواعد العرفية، في المحافظات الجنوبية والشرقية، والتي لم تتضمنها الدراسة، نظرا لوجود كيانين سياسيين مختلفين قبل الوحدة "1990"، وقد كان من الضروري أن يتضمن هذا الكتاب ما يمكن أن يكون مفاهيم أو مبادئ عامة للقواعد العرفية الخاصة بحل النزاعات في المحافظات الجنوبية والشرقية؛ لأن الموضوع لم تتم دراسته من قبل باحثين متخصصين، وإذا كان ولابد أن أشير هنا إلى ما هو المطلوب، فهو دراسة مقارنة بين الأعراف واختلافها واتفاقها ما بين المحافظات المختلفة، وعلى الباحثين في المستقبل الالتفات إلى هذا الموضوع، والقيام بهذه الدراسات المقارنة، إلى جانب مقارنة تلك القواعد بمثيلاتها في المنطقة العربية.

الثاني: إبراز القواعد المشتركة بين شمال اليمن وجنوبه في مجال العادات والأعراف خاصة منها القواعد العرفية الخاصة بحل النزاعات فقد اتضح أن هناك قواسم مشتركة كثيرة بين المحافظات الشمالية والجنوبية والشرقية وأن التراث الاجتماعي وقواعد حل النزاعات لها جذور مشتركة مهما اختلفت أو تباينت التسميات أو المفردات وأن المصالح المشتركة في الانتقال والتجارة والرعي بين المناطق المختلفة في اليمن قبل ظهور الكيانات الحديثة في القرن العشرين ووضع الحواجز والحدود، كانت أساسًا لوحدة ذلك التراث الاجتماعي، وإلا فما الذي يدعو قبائل الجوف إلى الاحتكام في حل النزاعات إلى الحكم بن عجاج في حضرموت، إذا لم يكن هناك تواصل ومصالح مشتركة، وانتقال مفتوح؟! كما أن الهجرة الداخلية اليمنية من منطقة إلى أخرى كانت السمة العامة في حركة السكان تاريخيًا في اليمن، ولكن الخلافات والصراعات كانت انعكاسًا لمحاولة السيطرة والاستحواذ على السلطة والثروة أو فرض أفكار ومذاهب دينية بهدف السيطرة والحكم.

الثالث: الرد على كل الدعوات التي، للأسف، تتبناها بعض القيادات السياسية أو الثقافية والتي تذهب إلى أن هناك اختلافًا شاملًا بين الشمال والجنوب وهي دعوات غير واقعية تقابلها دعوات أخرى تعتبر أن هناك أصلًا وهناك فرعًا وهي دعوات تحمل نفس التطرف والبعد عن الواقع الاجتماعي والثقافي للمجتمع بأبعاده التاريخية والثقافية وهذا يستدعي العمل على معالجة قضايا السلطة والثروة من خلال المفاهيم العصرية في سيادة القانون وتطبيق نظام الوحدات الإدارية المستقلة ماليا وإداريا في إطار ما يسمى الدولة الاتحادية وهي الطريقة التي أخذ بها الكثير من المجتمعات وعالجت من خلالها أوضاعا أكثر تعقيدًا، معالجة طُبِّقَتْ على مجتمعات متباينة وذات جذور ثقافية مختلفة، ورغم ذلك استطاعت تلك المجتمعات بالوعي والإدراك لأهمية التعايش المشترك ونبذ العنف والاحتكام للحوار والخضوع لسيادة القانون والمواطنة المتساوية، أن تحافظ على وحدتها في إطار التعدد بحيث أصبح التعدد والثراء الثقافي في تلك المجتمعات عامل قوة وليس سببا للصراعات والحروب، وهناك نماذج كثيرة لهذا الفعل الواعي في عالمنا المعاصر من الهند إلى إثيوبيا، إلى الولايات المتحده الأمريكية وغيرها من المجتمعات المعاصرة.

لعل بعض الباحثين في المستقبل سيقومون بعمل دراسات عن الأعراف في محافظة المهرة

يؤكد العليمي أن عزلة اليمن في الماضي، وبُعده عن مراكز الحضارة العصرية قد ساعدا على استمرار الأوضاع والأنظمة الاجتماعية والاقتصادية؛ في أن تعيد إنتاج نفسها، كما أن دخول اليمن الإسلام لم يلغ تماما بعض عناصر التراث الثقافي اليمني، خصوصا تلك التي لا تتعارض مع العقيدة الإسلامية، ولقد كانت قواعد وإجراءات حل المنازعات بالطرق العرفية، أحد مظاهر التراث الثقافي اليمني المتميز الذي حافظ على الاستمرارية في إطار البناء الاجتماعي في اليمن على مدى قرون طويلة، وساعدت على هذا الاستمرار عوامل متعددة.

ويخلص من خلال دراسته إلى عدد من النتائج لعل أهمها: أولًا: إن قواعد القانون العرفي في المجتمع اليمني قد تركت الكثير من القضايا للبت فيها طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية ابتداء بالمواريث والأحوال الشخصية كالطلاق والزواج، كما أن الدية المقررة تقدر وفقا للشريعة في حين نجد أن الكثير من قواعد العرف تستمد مقوماتها من الشريعة الإسلامية أساسًا

.ثانيًا: إن جميع إجراءات المحاكمة ابتداء من رفع الدعوى وانتهاء بإصدار الحكم تتفق تماما مع تلك القواعد التي كانت أساسا لحل الخصومات والنزاع في فجر الإسلام

.ثالثًا: إن قرب الصفوة المسيطرة في المجتمع القبلي والريفي عموما، واضطراب الأوضاع السياسية وعدم الاستقرار، كل ذلك قد أدى إلى بقاء الكيانات القبلية والقروية معزولة عن بعضها بعضًا، ومستقلة أحيانا عن الدولة المركزية الأمر الذي استلزم وجود وسائل ضبط داخلية مستمدة من التراث الثقافي.

رابعًا: إن إجراءات المحاكمة المتبعة في القضاء العرفي تتسم بسرعة إجراءاتها إذا ما قورنت بالإجراءات المتبعة في القضاء الرسمي وقد شكَّل ذلك عاملا من عوامل اللجوء إلى القضاء العرفي، والبعد عن المحاكم الرسمية التي اتصفت بالتطويل في إجراءاتها.

خامسًا: إن هناك نوعًا من التخصص النسبي بين كل من نظامي القضاء الرسمي والعرفي فالقضاء العرفي يتولى كل أنماط القضايا بدون استثناء ما عدا تلك القضايا المتعلقة بالمواريث والزواج والطلاق، فإن الفيصل النهائي فيها يظل خاضعًا لأحكام الشريعة الإسلامية سواء بحلها عن طريق المحاكم الرسمية أو عن طريق قضاة التراضي.سادسًا: هناك نتائج مهمة تترتب على استمرار العمل بقواعد القانون العرفي في المجتمع اليمني باعتباره وسيلة مهمة من وسائل الضبط الاجتماعي وهذه الآثار تبدو واضحة في:الحد من انتشار الجريمة وتحقيق الأمن ـ الحد من سلطة الأجهزة القضائية، والتنفيذية للدولة ـ تحقيق التضامن الاجتماعي.

سابعًا: إن مستقبل القضاء العرفي في المجتمع اليمني يرتبط إلى حد كبير بمستقبل الأجهزة القضائية والتنفيذية وتحديثها وتطويرها وفقا لمعطيات الواقع الاجتماعي والاقتصادي الجديد، وفي ظل خطط تنمية مستدامة، والعمل على إنشاء محاكم عرفية يشترك فيها أفراد من الجهاز القضائي الرسمي بصورة مباشرة تمهيدا لإنشاء محاكم رسمية خصوصا في تلك المناطق التي ما زالت تخضع لأحكام العرف مما يساعد على سد الفجوة القائمة بين البناءين القضائيين العرفي والرسمي، إضافة إلى أن التطور الاجتماعي والاقتصادي قد أفسد الكثير من تلك القيم العرفية وذلك في حد ذاته يمثل دعوة صريحة إلى ضرورة تبني الأجهزة التشريعية والقضائية لقواعد القانون العرفي وتقنينها، وإنشاء المحاكم العرفية رسميا، وإعطاء الأفراد حرية اللجوء إلى المحاكم الرسمية أو العرفية لحل خصوماتهم وتحقيق العدالة بالمشاركة الشعبية، وهو ما ثبت نجاحه في حضرموت خلال حكم الدولة القعيطية.

ثامنًا: إن دراسة أوضاع حل النزاعات في المحافظات التي كانت خاضعة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، بيَّنت أن هناك الكثير من القواسم المشتركة بينها وبين المحافظات التي كانت خاضعة للجمهورية العربية اليمنية محل الدراسة الأساسية لهذا البحث.تاسعًا: أن استمرار القضاء العرفي بدون تنظيم من قبل الدولة أسوة بما اتخذتة الدولة القعيطية في حضرموت في القرن الماضي، قد أدَّى إلى ضعف أجهزة الدولة القضائية والتنفيذية، وعدم قدرتها على بسط نفوذها على تلك المناطق التي لا تخضع لسلطات الدولة وهو ما أدى إلى ضعف الدولة من ناحية، وقوة نفوذ القبيلة من ناحية أخرى مع انهيار شبه كلى للقيم والقواعد العرفية في أوساط القبائل، الذي ترتَّب عليه، تشويه لذلك النظام العرفي وسيادة الفوضى، وتدني وتفكك وسائل الضبط التقليدية، وغياب وسائل الضبط الحديثة، مما أدى إلى سيادة الفوضى، وانتشار الجريمة دون رادع عرفيَّ أو رسمي.

عاشرًا: إن التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع اليمني خلال القرن الماضي، وكذا تطور وسائل التواصل الاجتماعي والثقافي والإعلامي قد ترتب عليه، تدهور وتفكك قواعد العرف في المجتمع اليمني وضعف تأثيرها المعنوي والنفسي لدى الفرد والمجتمع الأمر الذي ترتب عليه ضعف سيطرة القضاء العرفي، وغياب أجهزة الضبط الحديثة الرسمية، ومانتج عن ذلك من انتشار للجريمة بأنواعها المختلفة وتشويه الأعراف وقواعد الضبط الاجتماعي التقليدية الأمر الذي يستدعي العمل على بسط سيادة القانون وأجهزة الضبط الرسمية للحد من انتشار الجريمة وتعزيز الأمن الاجتماعي وتعزيز مؤسسات الدولة بمستوياتها المختلفة.