رحيل الطبقة السياسية هو الهدف

لحظة عراقية فارقة بامتياز، لا تقل أهمية عن كل اللحظات التي شهدها هذا البلد المنكوب.

ما الذي يمكن أن يفعله العراقيون أكثر لكي تصدق الطبقة السياسية الحاكمة أنها لم يعد لها مكان في السلطة؟

الملايين التي نزلت محتجة إلى شوارع المدن العراقية لم تطالب بتغيير قانون الانتخابات أو حتى طرد رئيس الوزراء من منصبه.

فعلت الطبقة السياسية أسوأ ما يمكن أن تفعله حين اختزلت الغضب العراقي بهذين الاجراءين اللذين صارا جزءا من ماضي التاريخ المزيف.

انتفض الشباب العراقي ضد العراق الجديد الذي رفضوه جملة وتفصيلا. وهو مطلب لا يقبل التجزئة. صار لزاما عليهم أن يطووا صفحة ذلك العراق الذي تلوذ به الطبقة السياسية.

ذلك يعني أن العراق الحقيقي يثور على العراق المزيف.

وهو ما صار واضحا دون لبس من خلال شعارات كُتبت بلغة بسيطة لا يمكن أن تدخل في دائرة سوء الفهم. وهي شعارات لم تُرفع من قبل، يوم كان التظاهر محصورا بمطالب خدمية.

الـ"لا" الشبابية تشمل الجميع. كل من شارك في الحكم والعملية السياسية والانتخابات وإدارة مفاصل الدولة منذ 2003 وحتى اليوم.

لم يطلب المحتجون من الطبقة السياسية الحاكمة أن تبحث عن حل للأزمة بل طالبوها بالرحيل. ذلك هو الحل الوحيد لإنهاء الأزمة.

لو كان في العراق جيش وطني لطالبوه بالانقلاب وإعلان الاحكام العرفية وحالة الطوارئ إلى أن يتم تنظيف الدولة من النفايات.

لكن العراق دولة من غير جيش. وهو ما دعا شبابه إلى أن يقوموا بالانقلاب المطلوب بأنفسهم من أجل انهاء فصل مرير من التاريخ السياسي المعاصر في العراق اتسم بالخيانة.

الطبقة السياسية الحاكمة في العراق هي بالنسبة للشباب الغاضب هي طبقة خائنة قبل أن تكون طبقة فاسدة. وهو ما جعلها تستسلم للهيمنة الإيرانية بكل صورها.

كانت الهتافات المنادية بإنهاء الهيمنة الإيرانية هي عنوان التظاهرات وهو ما أزعج خامنئي نفسه فهل يمكن اسكات تلك الهتافات من خلال إعادة انتاج النظام المتهم بالعمالة لإيران؟

منذ البدء الأول كان الاحتجاج واضحا في نأيه عن المطالبة بالإصلاح وكان التغيير هو الهدف. قد يبدو ذلك الهدف اعجازيا غير أن أي اجراء آخر لا يمكن أن يقدم حلا. فالتغيير وحده كفيل بطي صفحة الاحتلال الأميركي وما تلاه من آثار وتداعيات لا يزال النظام السياسي القائم حريصا على تمتينها وضخ دماء جديدة فيها.

لذلك لن يكون في الإمكان ردم الهوة التي تفصل بين الشعب والطبقة السياسية الحاكمة. وهو ما صار الطرفان يدركانه بالرغم من أن الطبقة السياسية لا تزال حتى هذه اللحظة تعتبر نفسها المرجعية الوحيدة لما تسميه بـ"الإصلاح" وهي في ذلك انما تمارس نوعا من الهروب من الاعتراف الحتمي بالهزيمة.  

الوصاية التي مارستها الطبقة السياسية على الشعب لسنوات طويلة انتهى مفعولها ولم تعد مقنعة لأحد. كما أنه بات واضحا أن المحاصصة بين الأحزاب على أساس عرقي وطائفي لن تبني وطنا بل هي أسرع الطرق لهدمه. ذلك لأن المحاصصة كانت العنوان الملطف للفساد. وهي الغطاء الذي مارس اللصوص تحته أكبر عملية فساد مورست في تاريخ البشرية.

ما حدث في العراق عبر الستة عشر عاما الماضية لم يحدث ما يشبهه في عصرنا. فما من دولة سُلمت ثرواتها كلها إلى فئة محدودة العدد، ليس هناك من يسألها عما تنفقه وعن النواحي التي تذهب إليها الأموال المختفية.
كان تلك الفئة عبارة عن ثقب أسود تدخل إليه أموال العراقيين فتختفي نهائيا.

لم تبن مدرسة فكان طلاب المدارس يقتعدون الأرض.

لم تشيد مستشفى فظلت المستشفيات من غير أسرة ولا أجهزة طبية.

تم إنفاق ثلاثين مليار دولار من أجل اصلاح شبكة الكهرباء لا يزال البلد من غير كهرباء.

الوضع نفسه يصح على منظمتي المياه الصالحة للشرب وتصريف المجاري.

لقد استلمت الطبقة السياسية بلدا حطمت الحروب بنيتيه التحتية والخارجية ولا يزال كما هو كما لو أن الغزاة ما زالوا يجوبون أزقة مدنه.

اما أين ذهبت المليارات التي يحصل عليها العراق من جراء بيع النفط سنويا؟ فإن مئات الألوف من العراقيين الذين يعيشون في المزابل وخريجو الجامعات الذين يجلسون على الأرصفة كل نهار بحثا عن عمل والشباب الذين صار اللجوء بالنسبة لهم حلما للخلاص من الجحيم يعرفون من سرق أموالهم وهم إذ يواجهون الرصاص يدركون أن مَن سرقهم قد هيأ نفسه للحظة الصدام المتوقعة.

بالنسبة للاثنين فقد حانت لحظة الخلاص. اما أن يتخلص الشعب من الطبقة السياسية كلها أو أن تلك الطبقة تنتصر على الشعب وتمضي في طريق الفساد.