رسالة العدالة والنقاش المفتوح لا تبدد ظلام الحياة الرقمية

الكتابة على مواقع التواصل ليست عملية فكرية واعية، إنها مجرد غريزة بهدف الضرر بالآخر وإن تطلّب الأمر تمزيقه، أضيفت إلى غرائز الإنسان الأخرى كدليل على التطهير والاجتثاث الذي يمارس من دون رقابة أخلاقية في عالم رقمي.
يبدو أن رسالة العدالة والنقاش المفتوح لا تبدد الكثير من الظلام الذي يحيط بحياتنا الرقمية

أمر يدعو إلى الإزعاج أكثر من الحيرة، أن يكون كاتبا على درجة من الأهمية وأصدر أكثر من خمسة كتب في المعرفة والفلسفة، لكن عند تأمل حساباته على مواقع التواصل تكتشف بيسر الانهيار المريع في اللغة وتراجع الأفكار! لا يمتلك هذا المثال غير ذريعة الخضوع إلى الثقافة السائدة لاستقطاب المزيد من المتابعين، وليس الإسهام بصناعة معرفة عميقة. بينما كان الأجدر به أن يبقي على ربطة عنقه مشدودة! احتراما لقواعد اللغة.

بمجرد اقتحام “جيوش من الحمقى” لوسائل التواصل الاجتماعي وفق تعبير الراحل أمبرتو إيكو، صارت الحرب تدور حول “إلغاء الثقافة” وانهيار “صناعة الأفكار” و”قتل اللغة” و”تشويه الآخر وسحقه” و”نشر الأكاذيب” يقابلها “خنق حرية التعبير” و”المصادرة والمنع” و”اللاعدالة” و”ثقافة الإلغاء”، وفي كلا المستويين يجري الأمر بدون وجه حق واضح وبحماقة قلّ نظيرها في التاريخ. وهو ما يصفه الصحافي البريطاني أوين جونز بـ”سياسة النقاش السام الذي أصبح هدفا للإساءة”.

ويكتب جونز في صحيفة الغارديان “النقاش السياسي أصبح سببا للانقسام والانتهاك الشخصي والإساءات أمر يكاد يكون يوميّا بين الناس”.

لا نتحدث هنا عن السفاهة والعبث السائد بلا اكتراث فقط، بل عن خسارة النخب المعرفية لنفسها في عصر وسائل التواصل الاجتماعي. فأولئك الذين تم وصفهم بـ”الغوغاء عبر الإنترنت” هم في الغالب أشخاص لم يتمكنوا أبدا من التأثير على المحادثات بشأن مصائرهم، وفق تعبير نسرين مالك الكاتبة في صحيفة الغارديان البريطانية. فلماذا يراد للآخرين أن يسيروا خلفهم وهم نيام، من دون الشعور بالمسؤولية.

يبدو الأمر متعلقا بحرية الإنترنت في الغالب وليس الحرب الأيديولوجية والدينية والعرقية المندلعة منذ سنوات على وسائل التواصل. فالشركات التكنولوجية لا تريد فتح صناديقها السوداء على سعتها امتثالا لمدونة القيم ونشر الثقافة العالية، لأن ذلك يغير نماذج أعمالها ويؤثر على أرباحها، مثل كل شيء رديء وشائع.

تحاسب نسرين نفسها كمدونة على حسابها الشخصي في مرحلة لاحقة لما تكتبه في الصحيفة التي تعمل بها، كي لا تبدو متأخرة عن التفكير بما تتبناه متسائلة “كم عدد الطرق التي يمكن أن يساء فهمها، وهل يمكنني الدفاع عنها إذا كانت كذلك؟”، فالكتابة على مواقع التواصل ليست عملية فكرية واعية الآن، إنها مجرد غريزة بهدف الضرر بالآخر وإن تطلب الأمر تمزيقه، الكتابة على مواقع التواصل أضيفت إلى غرائز الإنسان الأخرى كدليل على التطهير والاجتثاث الذي يمارس من دون رقابة أخلاقية في عالم رقمي مهول يتفاعل معه الملايين.

ومع ذلك لا يمكن لي ولغيري، إدانة التجربة الحية التي تقدمها الإنترنت للإنسانية، مثلما لا يمكن لنا إنكار أهمية وسائل التواصل الاجتماعي، كوسيلة نسمع من خلالها أصواتا مهمشة والتعرف أكثر على طريقة تفكير أصوات مهمة أخرى، حتى بالنسبة إلينا كصحافيين أصبحت تلك المنصات منافسا حقيقيا لغرف الأخبار.

قد يكون من الصعب في بعض الأحيان التمييز بين جماعات مدفوعة بهدف الإضرار بالأشخاص والدول على مواقع التواصل، وبين المؤسسات الأمنية التي تعمل على إثارة الفوضى، لكن من السذاجة الاعتقاد بعدم وجود جهات متطرفة وغير متسامحة تعمل على المنصات الاجتماعية تحت ذريعة الدفاع عن العقيدة والدين والطائفة والقومية والوطن.

يصنع الحدث أيضا
يصنع الحدث أيضا

لقد طمس العالم الرقمي بعد اجتياحه لحياتنا منذ أكثر من عقد، الخطوط الفاصلة بين العام والخاص، وبين المسؤولية الشخصية والعملية، وكشف عن نرجسية تهدد مفهوم الحرية، وصرنا مراقبين بذهول للتصعيد الدرامي في كل شيء من التلاعب بالانتخابات إلى دعاية الأنظمة الاستبدادية والترويج لأفكار متعصبة يجهر بها رجال دين بطريقة وكأنهم شهود عيان على ما حدث في التاريخ السحيق، بل إنهم يخولون الحق لأنفسهم بمسك سوط الله لجلدنا يوميا في منصات يتابعها الملايين.

بالنسبة إلى كل هؤلاء بما فيهم الأنظمة لا يتعلق الأمر باستغلال حرية التعبير فقط، بل لإزاحة النخبة الفكرية وصنع قوى جديدة تدير ثقافة مدمرة تترسخ اليوم بفكرة “ما بعد الحقيقة”، وهذه القوى الجديدة ليست سوى أحدث طريقة يتم بها انتزاع الخطاب الدعائي السياسي القديم من الجهات التي كانت فاعلة في يوم ما وتسيطر بمفردها على العقول عبر جعل صوتها الحنجرة القوية والوحيدة.

أدركُ مثل الكثيرين أن التمييز وسط هذا الكل المهول من المعلومات، صعب على الأغلب، وأن العدالة مختلف بشأنها على المنصات الرقمية، بيد أن الرسالة المفتوحة بشأن “العدالة والنقاش المفتوح” التي وقّع عليها 150 كاتبا وصحافيا وباحثا، ونشرت الأسبوع الماضي في مجلة “هاربر” أثارت الالتباس والانتباه معا بشأن مصيرنا الذي يرسم على وسائل الإعلام ومواقع التواصل، أو طريقة تعريفنا بأنفسنا.

فعندما تطالب نخبة من المفكرين والكتاب، بينهم نعوم تشومسكي وجي. كي. رولينغ وسلمان رشدي ومارغريت آتوود، في تلك الرسالة المحتجين في العالم بعدم الانجرار إلى ما وصفته بـ”ثقافة الإلغاء”، هذا يعني أن مفهوم الحرية في خطر أيضا! الأمر الذي دفع الكاتب الصحافي جوناثان كوك إلى اعتبار من السهولة بمكان دعم حجة الرسالة الداعية إلى التسامح والنقاش الحر والعادل “لكن الحقيقة تكمن في أن العديد من الذين وقعوا عليها لم يظهروا التزاما تاما بحرية التعبير في أفعالهم. وتبدو نية الكثيرين منهم عكس هدفهم المعلن: فهم يريدون خنق حرية التعبير، وليس حمايتها”.

لقد وصف من قبل المحلل التكنولوجي جون نوتون العالم الرقمي بأنه غارق في الظلام. ويبدو أن رسالة العدالة والنقاش المفتوح لا تبدد الكثير من الظلام الذي يحيط بحياتنا الرقمية.