روايات عربية في "مرايا السرد"

ربيع عبدالعزيز يحلل ثلاث روايات تنتمي إلى ثلاثة أجيال من الروائيين.
الخال في "ربيع الكروان" الذي من المفترض أن يقوم مقام الأب لا يتسق تصرفه مع آصرة القربى التي تصله بمن أشرف على طردهن
القضية الجوهرية في بيضاء يوسف إدريس هي جدلية العلاقة بين الشرق العربي والغرب الأوروبي

صدر هذا الكتاب عن مكتبة الآداب بالقاهرة، وفيه يحلل المؤلف ثلاث روايات تنتمي إلى ثلاثة أجيال من الروائيين: أولى الروايات الثلاث هي دعاء الكروان للدكتور طه حسين؛ الذي يعد أحد رواد الإبداع الروائي في العالم العربي. يتقصّى مؤلف الكتاب القضايا الاجتماعية والإنسانية المتشابكة التي تعالجها دعاء الكروان، وهي: الشرف والعلم والحب، ويتابع المصير المأسوي لأسرة كان عائلها زير نساء لقي حتفه في واحدة من مغامراته النسائية، تاركا خلفه ثلاث نساء بلا عائل، وهن الأم (زهرة) وابنتاها (هنادي وآمنة).
ويشير الناقد إلى أن واحدة من النساء الثلاث لم تقترف جريمة، ولكن القرية أبت إلا أن تطردهن، وكان الخال (ناصر) من القسوة بحيث أشرف بنفسه على إجلاء أخته وابنتيها من القرية والدفع بهن إلى مصير مجهول، ويضيف مؤكدا أن طرد النسوة أضعف الحبكة الروائية؛ لا لأنهن لم يرتكبن جريمة تستدعي هذا العقاب فحسب، بل – أيضا - لأن البيئة الصعيدية التي تنتمي إليها النسوة لا تطرد نساءها بل تنظر إليهن بوصفهن أعراضا أحرى أن تصان، ولأن الخال الذي من المفترض أن يقوم مقام الأب لا يتسق تصرفه مع آصرة القربى التي تصله بمن أشرف على طردهن.
وكان من المتوقع أن تذوق النسوة مرارة إذعانهن لقرار الطرد من القرية، وأن يدفعن ثمنا باهظا لجريمة الأب الفاجرة ولقسوة الخال المتجرد من شهامة الرجال؛ فكان أن اضطرت هنادي وآمنة للعمل خادمتين في بيوت السادة من أهل المدينة التي لجأن إليها مع أمهما؛ أما هنادي فقد عملت خادمة في بيت مهندس شاب ظل يراودها عن نفسه إلى أن اغتصبها وأودع في رحمها جنينا، لينتهي مصيرها بالموت قتلا على يدي خالها (ناصر)؛ الذي كان قد استعاد نخوته فبادر إلى البحث عن أخته وإعادتها وابنتيها إلى أحضان القرية.  

Arabic novels
مصير مأسوي 

وأما أختها (آمنة) فقد عملت خادمة في بيت المأمور، وظلت تجالس ابنة المأمور حين كانت الأخيرة تتلقى دروسها من معلمها، وألمت بما  تناهى إلى أذنيها من دروس المعلم، ولم تزل كذلك حتى هزمت الجهل وأصبحت تحسن القراءة، ولكن رغبتها في الانتقام من المهندس الذي اغتصب أختها، تحملها على أن تغادر بيت المأمور، على أن تحتال لكي تعمل خادمة في بيت المهندس الشاب؛ الذي لم يكن يعلم أنها أخت هنادي، والذي حاول إخضاعها والنيل منها سوى أنها أجهضت كل محاولاته، وظلت تتحين الفرصة للثأر منه. 
وتبدو أفعال معظم شخصيات دعاء الكروان موصولة بأسبابها وبواعثها لا أستثني من ذلك - والكلام للدكتور ربيع عبد العزيز - إلا الخال ناصرا؛ فهو رجل متناقض تارة يتجرد من نخوة الرجال فيطرد أخته وابنتيها من القرية ويسلمهن إلى الضياع، وتارة أخرى يتحلى بالنخوة فيسعى إلى إنقاذ أخته وابنتيها من الضياع وإرجاعهن إلى القرية، وفي طريق عودة الأسرة إلى القرية يجهز على هنادي بعد أن علم أنها حملت سفاحا ناسيا أو متناسيا أنه شارك في وصول هنادي إلى هذا المصير المأسوي. وعندما هربت آمنة منه بعد أن روعها مقتل أختها تجرد من النخوة ولم يشأ أن يستعيد آمنة خوفا عليها من المصير الذي انتهت إليه أختها!
ثاني الروايات التي حللها الناقد في كتابه مرايا السرد، هي رواية "البيضاء" للدكتور يوسف إدريس؛ الذي يمثل حلقة في جيل الوسط من الروائيين المصريين؛ جيل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ومحمد عبدالحليم عبدالله. أما البيضاء؛ التي أعطت الرواية عنوانها، فهي سيدة يونانية تدعى (سانتي)، تقيم بالقاهرة، وتعمل مراسلة صحفية، وتناضل بقلمها دفاعا عن قضايا التحرر الوطني. 
ويؤكد الناقد أن القضية الجوهرية في بيضاء يوسف إدريس هي جدلية العلاقة بين الشرق العربي والغرب الأوروبي، وهي قضية استأثرت باهتمام العديد من أدباء الشرق والغرب؛ فمن الغرب عالجها شكسبير في مسرحية "عطيل"، وألبير كامي في رواية "الغريب"، وكلير أتشرللي في رواية "الحياة الحقيقية". ومن الشرق عالجها الدكتور طه حسين في رواية "أديب"؛ التي صدرت عام 1935، ثم توفيق الحكيم في رواية "عصفور من الشرق"؛ التي صدرت عام 1938، ومحمود تيمور في رواية "نداء المجهول" 1939، ويحيى حقي في رواية "قنديل أم هاشم" 1944، والدكتور سهيل إدريس في رواية "الحي اللاتيني" 1953، وعبدالحميد ابن جلون في رواية "في الطفولة" 1957.
ولفت الدكتور ربيع الأنظار إلى أن أولئك الكتاب عالجوا العلاقة بين الشرق والغرب من خلال ثنائية الذكورة والأنوثة، وجعلوا الذكورة تمثل الحضارة الشرقية، والأنوثة تمثل الحضارة الغربية، كما جعلوا العلاقة العاطفية بين الرجل الشرقي والمرأة الغربية تنتهي بالقطيعة واستحالة التلاقي المثمر بين أبناء الحضارتين، مع أن الدكتور طه حسين الذي أنهى العلاقة بين الفتى الشرقي (أديب) وحبيبته الفرنسية (إلين) نهاية سلبية مفعمة بالذهول، هو بعينه الدكتور طه حسين الذي أحب الفرنسية (سوزان) وتزوج منها زواجا متوجا بالبنين! ويحيى حقي الذي أنهى العلاقة، في رواية "قنديل أم هاشم"، بين الفتي الشرقي (إسماعيل) والفتاة الإنجليزية (ماري) نهاية سلبية متشائمة، هو بعينه يحيى حقي الذي تزوج امرأة غربية وعاش معها حياة مستقرة هانئة!
ويلفتنا مؤلف مرايا السرد إلى أن البطل الثائر من أجل تحرير وطنه من المحتل الغربي، تحول إلى إنسان محتل بالأنوثة الغربية ممثلة في سانتي! وأنه حتى في اللحظات القليلة التي يستعيد فيها البطل وعيه بالذات والوطن، كان يبدو فيها حائرا، يتطلع إلى الثورة على سانتي والتحرر من حبها، ويعجز عن ترجمة تطلعاته إلى فعل ملموس؛ وها هو يقول: "قيدت نفسي إليها بإرادتي، وبإرادتي أريد أن أكسر قيودي، فمن أين آتي بإرادة لي تلغي إرادتي؟ وكيف أحطم بنفسي بنيانا لا تملك إلا أن تبنيه وتستمر تبنيه؟ فلأَثُرْ إذن ما شاءت لي الثورة، ولأحس بنفسي قويا، وبإرادة جديدة تنبعث في نفسي، فأنا خير من يعرف أن هذه كلها إن هي إلا انفعالات وقتية لا يمكن أبدا أن تصمد لتجربة.
حقا كان يحيى يراجع – أحيانا - موقفه من الحب والثورة، ويؤنب ضميره ضميره، لكنه لم ينته إلا إلى مزيد من الحيرة والتماس الأعذار لنفسه ولحبيبته وطاعونه الغربي؛ يقول: "فأنا ثائر أعذرها في موقفها مني، وأعذر نفسي في موقفي منها. أنا حائر وأريح نفسي فلا أستطيع، وأتعب وأتعبها معي. أنا ثائر على ضعفي تجاهها ثورة عظمى. أحبها بضعفي وأريد قتل هذا الحب بقوتي، فلا تستطيع هي أن تمد يد العون لتغلب ضعفي على قوتي، أو تغلب قوتي على ضعفي" (البيضاء، ص232).
الرواية الثالثة والأخيرة التي حللها الدكتور ربيع عبدالعزيز في كتابه، هي رواية "الأسوار" لمؤلفها محمد جبريل؛ الذي يعد حلقة بارزة في جيل أدباء الستينيات من القرن العشرين؛ جيل جمال الغيطاني، ومحمد السيد عيد، وخيري شلبي وغيرهم.
 تعالج الأسوار الرواية ثنائية القهر والحرية وما ينبثق عنها من ثنائيات فرعية؛ كالأثرة والإيثار، والثبات على المبدأ والمقايضة عليه، والخيانة وحب التضحية من أجل خلاص الآخرين، وكلها ثنائيات ذات طابع إنساني. ويشير مؤلف مرايا السرد إلى أن هذه الثنائيات سبق أن عالجها روائيون، مثل بلزاك في الأب "جوريو"، ونجيب محفوظ في رواية "الكرنك" ورواية "بداية ونهاية".  

Arabic novels
قضية جوهرية 

وكشف الدكتور ربيع عن أثر المكان "الأسوار" في امتلاء الرواية بأكثر من خمسين شخصية من الرجال الذين ينتمون إلى مشارب وطبقات  متباينة؛ فقد كان فيهم القواد (علي الشامي)، والبلطجي (محمد توفيق)، والغشاش (خليل عبدالنبي)، والقاتل (توفيق عزوز)، وتاجر المخدرات (أمين سالم)، ومروج الشائعات (سلامة القاضي)، ومن ضيعته الوشاية (أحمد حسنين)، والسياسي (شاكر الملواني)، والمثالي (الأستاذ)، والخائن (حلمي عزت)، وطالب الطب (وهيب تادرس)، بالإضافة إلى المأمور، والصول سعيد، وحراس المعتقل. 
كما كشف عن أثر المكان في عزوف الكاتب محمد جبريل عن الاهتمام بالملامح الخارجية للشخصية الروائية، وإن أسند - في أحوال نادرة - إلى السارد وبعض الشخصيات، مهمة تزويدنا بإشارات مختصرة تصف جانبا من الهيئة الخارجية للشخصية؛ كالإشارة إلى تميز الأستاذ بالهدوء الحاسم، والفم الرقيق، والنظرات الحانية، وهي إشارات تفسر نسبيا استيلاءه على قلوب أكثر النزلاء. والإشارة إلى أن للصول سعيد جسدا عملاقا، وقامة هائلة، ونظرات قاسية، وشاربا تغوص فيه الشفتان، وهذه الإشارات تهيئ المتلقي لكي يعي ما يظهره الصول سعيد من قدرة غير عادية على إذلال النزلاء وترويعهم في لذة لا يمكن تفسيرها إلا على ضوء مقولات علم النفس عن المرضى بالسادية.
وساق الدكتور ربيع جملا حوارية عديدة من الأسوار تتألف من كلمة واحدة قد تكون فعلا، مثل (أعلم) و(أعتقد) و(أعرف)، وقد تكون استفهاما محذوف الأداة، مثل (معقول؟)، وقد تكون اسما معطوفا محملا بدلالة الاستفهام التعجبي أو الإنكاري، مثل (والخيانة) و(والتنفيذ).
كما ساق جملا حوارية أخرى بعضها لا يعدو أن يكون حرفا، مثل حرف الجواب (نعم)، وحرف التشبيه (مثل)، وبعضها يكون ظرفا مثل (الآن)، أو ضميرا يتضمن استفهاما تعجبيا مثل "أنا؟"، أو أداة استفهام تحيل على ما قبلها مثل (لماذا؟) و(ماذا؟) و( مَنْ).
وأرجع الدكتور ربيع قصر الجمل الحوارية في رواية "الأسوار" إلى المعتقل بوصفه مكانا خانقا، يضغط بوطأته على الشخصيات، ويجعل أنفاسهم قصيرة، وكلماتهم تكاد تختنق على الشفاه، وجملهم برقية لاهثة كأنها ممنوعات مهربة. ونوّه بقدرة محمد جبريل على توظيف سياق الكلام في تحديد (المورفيم) المحذوف، وأكد أن "الألفاظ إنما جيء بها للدلالة على المعنى، فإذا فهم المعنى بدون اللفظ، جاز أن لا تأتي به".