رواية 'زمن الأرجوان'.. والبحث عن القيم العليا

الفكرة العامة لرواية الكاتب أمجد توفيق تتلخص في إعطاء صورة عن جانب غير معلن تضافر لوأد ثورة تشرين التي قام بها الشباب العراقي.

في بلدنا العراق منذ زمن ليس بالقليل لم يكن من الصعب تحسس الهوة السحيقة ما بين الواقع والصبوات، ولا يمكن للوجدان الفردي أن يتفتح إلا من خلال وعي المأساة الجماعية، ذلك الوعي الجمعي هو ما كرست مضامينه رواية "زمن الأرجوان" للروائي أمجد توفيق، وبما أن الرواية هي أطوع الأنواع الأدبية للسرد بضمير الأنا، حتى وإن كانت تُروى بضمير الغائب، ذلك إن القانون المتحكم بها هو قانون الأنويّة، فإننا بالنتيجة ندرك أن شخصيات الرواية لا يمكن أن تدب فيها الروح ولا تكتسي حبرًا كلاميًا مقنعًا ولا تغدو مماثلةً للشخصيات الواقعية إلا إذا تفردت، وصارت كل واحدة منها أنا أو ذاتا. وبمجموع هذه الذوات وتفعيل دورها تتشكل الرواية بمفهومها الأشمل. خاصة إذا كانت قضيتها الكبرى دماء أريقت في سبيل الوطن، فبذلك يمكننا استكناه رسائلها المضمرة التي أراد مؤلفها أن يمررها في روايته وهي تحمل في طياتها الفكر الرافض لحكومة التعددية الحزبية التي حكمت العراق بعد سقوط نظامه في عام 2003 وما نتج من حراكٍ شبابي، وفكرٍ نضالي يتصاعد يومًا بعد آخر.

بقعة ضوء على فكرة الرواية

تتلخص الفكرة العامة للرواية في إعطاء صورة عن جانب غير معلن تضافر لوأد ثورة تشرين التي قام بها الشباب العراقي في ساحة التحرير على مدى شهور من النضال والمقاومة طلبا لحقوقهم المسلوبة التي اختصروها بجملة "نريد وطن" وقد تبنّى الحراك الفعلي في تنشئة الأحداث وتغذية الروي بالوقائع أحد الشخصيات الرئيسة في الرواية وهو الصحفي والكاتب المعروف باسم آدم. بعد أن رفض كتابة مذكرات أحد الرؤوس السياسية الملوثة بإجهاض ثورة تشرين والملطخة بدماء الأبرياء، فيتصاعد الصراع ويتبلور الحدث إلى ذروته، ليصلَ بنا إلى نتيجة حتمية محتكمة إلى زوال الطواغيت والساسة الفاسدين ولو على المستوى الفردي.

البعد النفسي وثنائية القلق والهدوء

إن الشخصيات التي تضمنتها الرواية (آدم، ميادة، سيف، حيدر) أسس لهم الروائي أبعادا نفسيةً واجتماعيةً واضحة، تكاد تكون نتاج ثقافة مجتمع وبيئة سائدة، تتطلب وعيًا وتعبئةً فكريةً تغوصُ في عمقِ الجذور لدواخلِ كل شخصيةٍ بما يتفاعلُ وحجم المعاناة التي عاشها كلُ فردٍ في هذا البلد، كما أن أفعالها ارتبطت بموروثها القيمي المؤثَّر عليه بتلك السلوكيات القلقة التي كانت تستحوذ على الفعل السياسي المتحكم بهم والراسم لطريقه "مسعود الأرجوان" بميلشياه وأعوانه، فكانت نتيجته واضحة من قبل آدم في مناهضته لها بغض النظر عمّا هو صحيح أو خاطئ في مجابهة أخطاره، ذلك أن الرد المجابه للأرجوان بوصفه عنصرًا مسببا لوأد الثورة، وعدم قبول آدم عرض كتابة المذكرات له كان واضحًا منه أنَّه يمتلك حسًا وطنيًّا ناقما على تزييف الحقائق وإلباسها ثوب الطهر بعد أن تسربلت بأثواب الرذيلة والمنافع الشخصية. وقد قدم الروائي موقفه من دون المبالغة في وصف الأحاسيس والآلام وتداعياتها بل قدمها بما يعطي الأثر المباشر للقارئ بضرورة أن يقول كلمته، بوصفه مثقفًا يمثل شريحة مجتمعية عليا، لا أن يظل صامتًا.

شكلت الأحداث بتعددها وتنوعها مع تعدد الشخصيات، ثنائية (القلق- الهدوء) وكانت تسير بصورة متوازية مع سير الأحداث، أن دفة القلق والاضطهاد وسلب الحقوق وإراقة الدماء وتكميم أفواه الأبرياء كان يمثلها مسعود الأرجوان بوصفه السياسي الذي قام بقتل الشاب سيف ذلك الثائر الذي لم يتقبل أن يبيع قضيته وقضية أقرانه له، والذي كشف جريمته الصحفي آدم عن طريق قرص سي دي وجده صدفةً بين أقراص تسلمها من الأرجوان بغية الكتابة عن سيرته عندما أقنع نفسه عنوةً بالكتابة في بادئ الأمر، إذ وعده الأرجوان بما يغير حياته ماديًا للأفضل ومن ثم انقلاب قناعته تلك إلى المجابهة والتحدي ورفض عروض الأرجوان واتفاقاته معه، وهنا علينا الفات الأذهان إلى ما قام به الروائي من تأسيس دقيق تناول فيه أصل الأرجوان ونشأته ومن هم أجداده وما هي بداياته التي تثبت دواخله الهجينة نحو اللصوصية وسلب الآخر، وتلك الأصول في حقيقة الأمر هي ما دعته ليقوم بتلميع صورتها في محاولة لإقناع الناس وإقناع عقله الباطن بجدارته لأن يكون سياسيًا وفي يديه زمام بلدٍ بأكمله عن طريق كتابة المذكرات حتى وإن كانت بالكذب والخداع، ولترسيخ ذلك قدم الروائي صورة لزاوج أب عراقي من أم فلسطينية وخلق مصاهرة نتجت عنها هذه الشخصية، وهو هنا لم يأت بأماكن افتراضية بل بتسميات عربية لبلدين عربيين أي كان تأسيسه لمكانين واقعيين لهما المكانة المتميزة في الفكر الجمعي العربي وكان نتاجهما الأرجوان ويبدو لي أن خياره ذلك كان يرمز في طياته لحالة ليست بالغريبة على أذهاننا عندما يكون الأب فاشلا وعاقًا لوالده فيهرب إلى بلدٍ آخر حاملا معه سلبياته وإخفاقاته خاصة أن هذا البلد الآخر لم يكن وضعه يوما ما بحال أفضل من بلده الأصيل فيتزوج بامرأة منه، وهذا لا يعني أن أي ارتباط من هذا النوع تكون نتائجه على هذه الشاكلة، وإنما أراد بث رسالة مفادها أن التنشئة الطيبة والبيئة الصحيحة تنتج ثمارًا طيبةً. والتنشئة الخاطئة والبيئة السيئة لا تطرح سوى السيئ إنْ لم تمتلك إرادة حقيقية وأصيلة في توجهها، والتساؤل الذي يتجلى للوهلة الأولى هو لماذا هذا التأسيس لهكذا جذور وبهذه الصورة؟ والإجابة تقول: أن تؤسس هوية شخصية يعني أنك خالق، وفي عملية الخلق لا بد أن تكون مبدعًا لا أن تكون تقليديًا، فالروائي استثمر قضية المصاهرة لرسم معالم معينة تخدم النص، ولم يذهب بعيدا بعمق التاريخ لبلدي الأب والأم ولم يطرح حوادثهما الحقيقية بل اعتمد تاريخًا لعائلة كان قريبا وحديثا يكاد لا يتجاوز عقود من الزمن ربما لم تبلغ القرن بعد. أن الهيمنة المؤدلجة داخل المتن السردي ببنائها الواقعي ساعدت على فهم القارئ لما كان يشكل عامل شد وجذب لإخماد الثورة بروحها وبسريرتها ونزوعها الوجداني الذي لا يمثله سوى جمع من الشباب لا يتجاوز عقده الثاني كله كان يترنم بحب الوطن.

أما دفة الهدوء التي تستكمن ثنائية (القلق ـ الهدوء) كما قلنا فقد مثلته الشخصيات التي حاولت الحفاظ على نفسها من القلق والتشتت المحيط بها بالاستمتاع بحياتها حينا، وتمثل وجودها الطبيعي وذلك تبرزه طبيعة علاقة الحب بين آدم وميادة وخط سيرها الرومانسي حينا، وخطها الشائك حينا آخر، بسبب ما يتعرضان له من خطف وتلاعب بالأقدار من قبل الأرجوان وصولا إلى الخطبة والزواج، وقصة الحب تلك قام بناؤها الروائي على حدث تمثل برفض آدم إجراء لقاء متلفز مع الإعلامية ميادة التي تعمل في قناة تابعة للأرجوان، الأمر الذي يتسبب بطردها من القناة غير أن ذلك الحدث تطور تصاعديا بحيث كنا نرنو إليه، وهو ينمو لحظة بعد لحظة، وساعة بعد ساعة أمام أعيننا. لتكون الشخصيتان تتحدثان وتتحابان بينما الأمكنة والأزمنة، تتقاطع، وتتوازى، وتتواقف ما بين مكان حميمي وأجواء مشتهاة لكليهما في كفة، ونزوع إجباري لأماكن أخرى يتخللها التنكيل والقسوة والموت في كفة أخرى. وفي ذلك يتضح لنا أن الروائي يخلق شخصياته نتيجة ملاحظاته الدقيقة لنفسيات وأنماط سلوك الشخصيات الحية التي يراها، ويتعامل معها في حياته العادية، وهو قادر على أن يخلق شخصيات ذات ملامح فنية، خاصة تجعل الشخصية خالدة في ساحة الأدب العظيم، لأن شخصيات روايته يستطيع المتلقي معها أن يجاوز صفحات الروي، ويمكن له أن يتحدث عنها، كأنما هي كائنات بشرية عاشت معه، أن رحلة آدم الهادفة إلى النقاء "الانطلاق من الخيانة" التي كاد يوقع نفسه بها فيما إذا كتب المذكرات للأرجوان هي رمز لدرس كبير يقدمه لنا الروائي كتوضيح أو كشف لمكنونات الشخصية أو كمصارحة للذات التي كانت تعمل عملاً دقيقا في محاسبة الشخصيات لأفعالها ومراجعة نفسها بين الحين والآخر وهي أشبه بمحاولة لبلوغ الطهر العراقي الأصيل الذي لا بد له من العبور بالبلد نحو السمو الذي يستحقه، وذلك نستشفه في الرواية بعدما نستشعر الفعل الكبير عندما يوقع آدم بمساعدة ميادة بالأرجوان وتفتضح جرائمه.

رمزية الكلب الأعمى في الرواية

إن الكاتب المبدع دائما ما يفتش في الطبيعة المحيطة به، ليجدَ ما يساعده على التعبير، فيكتشف رموزًا فاعلةً لم يفطن لها أحدٌ من ذي قبل، وذلك بحسب فطنته وقدرته الفنية. وتجدر الإشارة إلى أن التفتيش عن هذه الرموز لا يعني خواء لغته السردية أو نضوب أفكاره الروائية إنما هذه الرموز تنقل الروي من المباشرية والسطحية إلى فضاءات جديدة مفعمة بإيحاءات خصبة، ورؤى فلسفية جديرة بالتأمل. لذلك عمل الروائي أمجد توفيق على خلق علاقة صداقة روحية ما بين الثائر سيف وكلب أعمى استطاع إنقاذه من أيدي الأطفال وجلبه إلى المخيم الذي ضم شباب ثورة تشرين، وما قام به الروائي هنا هو نقل الكلب برمزيته من دون تجريده من صفته الحسية حين جعله رمزًا للوطن، أي أنه حوله من مستواه الحسي المعروف إلى مستوى آخر، ولا بد من الإشارة إلى أن الحسية في الرمز لا تتنافى مع الإيحائية فيه (1). ولذلك فإن إيحائية استنطاق فعل الكلب في خدمة ثيمة الوطن جاءت مجازًا ينتج عنه حقيقة الأثر الجمالي الذي يمكن أن يصنعه مخلوقٌ هو في الأساس من مكونات الطبيعة، لكنه استطاع أن يحرك الذات المبدعة للروائي ليجعله الجليس الأهم لشخصية سيف والمتحدث معه بأدق التفاصيل وحيثيات الحراك النضالي لرفاقه وهذا ما نقله الشاعر حيدر صديق سيف إلى آدم بعد مقتله، بل جعله على قدر من الشعور والإحساس حتى أنه أحس بالخطر ولحق خاطفي سيف وظل في نباحه المستمر ورائهم إلى أن تحول النباح إلى أنين ووصل ذروته عندما بكى ومن ثم مات الكلب بعدما مات صاحبه سيف. فالوطن يموت بموت أبنائه، خاصة أن الوطن بحالته تلك كان جريحا ومنتهكا وقد مثل العمى للكلب ذلك الجرح والانتهاك، وفي ذلك إثبات بأن التخييل الذي يرافق الرمز لا ينبغي له أن يكون سائبا من الكينونة الواقعية وهذا ما يؤكده "أدورنو" حيث يرى أن الانفلات المطلق من الكينونة الواقعية لن يؤدي إلا إلى تذييل مجاني رخيص ومحدود القيمة (2).

إن استثمار الرمز جاء بمستويات عدة، منها أن الروائي فطن إلى ما يوحيه الجانب الديني من إرث تلقيني في أذهان الناس من دون الرجوع إلى إحكام العقل وإدراك دستورية الحلال والحرام فيه عندما استهجن سيف دخول أحد الأشخاص إلى المخيم الذي فيه سيف والكلب ورفض أن يصلي في مكان فيه هذا المخلوق استصغارا له وتطيرا من نظافته، وبذلك نجح الروائي بابتداع الآلية اللازمة الفاعلة لاختراق شعور المُتلقي، والتَّغلغل في أفكاره، فلم يكن سيف ينظر إلى الكلب بصفته الحيوانية، بل كان يمنحه مكانة تعلو على مكانة الأشخاص الثائرين معه، ذلك أن ثورتهم كانت لأجل استرداد الحقوق في وطن مسلوب بينما مثل الكلب في قلب سيف ووجدانه الوطن برمته ولذلك لم يكن يبتعد عنه ولا ينشغل بالحديث مع غيره، وبذلك عمل الرمز على جلب أدوات فنية ذات أهمية كبرى في صياغة الصور الجديدة والمعاني المُتجددة، وهي في الوقت نفسه نمط أسلوبي بارز، من خلاله يفهم المُتلقي ما يُراد، وبتحليلها وتأويلها تتكشف دلالات لم تكن بيّنة أو ضمنية، ولهذا المقصد كان اعتماد الروائي على الرمز ليقدِّم مفاتيح الحلِّ لمقاصده.

الهوامش:

1 ـ ينظر: سعد الدين كليب، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، سوريا، ط2، 1997، ص 36.

2 ـ ينظر المرجع نفسه 36.