ريشة ماضيها يعتصر ألماً وحاضرها يرقص فرحاً

محمد حسن خطاب: رسمت نفسي عدة مرات، وكنت في كل المرات حزينا.
صفقوا له، وتم منحه تأشيرة الدخول، ولأول مرة شعر بأهميته واحترامه كفنان وقدرة موهبته على اختراق النفوس وعبور الحدود
الفنان السوري رسم الحقول والقرى القديمة، والوجوه المتعبة

كسنابل قمح متراصة بسكينة وهدوء، وبلغة عالية التأثير لوناً وتعبيرا، ضمن مشهدية روحية إنسانية متكاملة متعددة العناصر، وكل عنصر يحكي قصة، لا يمل الناظر من التحديق بتفاصيلها؛ تمسك بك ريشة الفنان محمد حسن خطاب، ابن جغرافيا المنطقة الجنوبية السورية، ابن حوران، نشأ في بيئة ريفية تمتهن الزراعة، وتشرب عاداتها وتقاليدها الأصيلة المتوارثة. لم يكن الفن بالنسبة لأهالي المنطقة أكثر من مساحة لوحة منسية معلقة على الحائط، كلوحة الطفل الباكي، أو آيات منقوشة بالخط العربي الجميل، رفضوا مشاركتها ضجيجهم الاجتماعي أو حتى إلقاء نظرة عليها، إلا أن لوحة الطفل الباكي بثت في نفس الفنان مشاعر الطمأنية والراحة، وهذا كان حافزاً لإكتشاف عالم الفن بما توفر له من أدوات.
مداعبة ريشة الأحلام
رغبة منه بإرضاء مجتمعه ونفسه؛ ترك الباب موارباً لهوايته التي تسللت، بعمر صغير؛ مع خيالاته الممتدة مع شروق الشمس وغروبها. شَعر بتفرده واختلافه عن أقرانه، فلم تسابق رجليه الريح ولم يختر اللعب كهواية مفضلة، إنما احنضن الطبيعة والسماء والحقول، داعبها بريشته، أحاطها بأحلامه وزخرفها بمشاعره، وأمسك بالزمن لعب معه ولاعبه،  لونه وزخرفه، سابقه وعاد معه مئات السنين إلى الوراء، باحثاً في التاريخ الذي حرك مشاعره، وحثه لطرح الكثير من الأسئلة عن ماهية الحياة التي كانت سائدة هنا وهناك. 
لفت أنظار أساتذته؛ وعرف باجتهاده ومتابعته لدروسه وجمال خطه وزخرفته لدفاترته، ليصبح محط اهتمام الجميع، ويعين مسؤولاً عن مجلة الحائط، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية اختار دراسة الهندسة المعمارية لإرضاء الأهل والمجتمع، إلا أنه ما لبث أن أدرك بأن قلبه لم يلامس الطمأنينة التي كان ينشدها، فقرر تغيير فرعه ودخول كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق. في السنة الثانية توفي والده واضطرر لإعالة أسرة كبيرة، فعمل مصورا فوتوغرافيا إلى جانب دراسته، وبصعوبة بالغة اشترى كاميرا احترافية وبالرغم من أنه لم يؤسس محله الخاص به، نجح بإعالة أسرته .  

fine arts
صفقوا له، وتم منحه تأشيرة الدخول

الحقيقة الوحيدة:
التقطته سنارة السفر، والوجهة قبرص، وفي مطار لارانكا رفضوا منحه تأشيرة الدخول ووضعوه بالحجز لإعادته إلى بلده، لكن سبق وتعرف على شاب حصل على تأشيرة الدخول لإتقانه اللغة الإنكليزية، وعندما عرف أنهم رفضوا منحه تأشيرة الدخول أبلغ المسؤول في المطار أنه فنان تشكيلي، فأرسل أحد الموظفين لإحضاره من الحجز، وترجم صاحبه ما قاله المسؤول إن استطاع رسمه سيمنحنه تأشيرة الدخول،  وخلال فترة وجيزة من الوقت رسمه كما هو، فصفقوا له، وتم منحه تأشيرة الدخول، ولأول مرة شعر بأهميته واحترامه كفنان وقدرة موهبته على اختراق النفوس وعبور الحدود. 
النبض الإنساني قلب الفن:
ارتجالي بطبعه، ومن مخزون ما يملك من أحاسيس ومشاعر وتجارب صنع أعماله، معلمه الأول الحياة، وما صقل موهبته كان وما زال المعاناة وتجاربه الشخصية، ولطالما استهوته المواضيع الإنسانية والتراثية وما هو قديم، إيماناً منه بأن الإنسان هو جوهر الحياة، والإنسان القديم بما صنعه هو صاحب الفضل لكل ما نملكه اليوم وما ستملكه الأجيال، فتكاد لا تخلو لوحة من أعماله إلا وفيها نبض إنساني. هنالك لوحات يقرب فيها الوجوه والأشخاص ليبرز معاناتهم، لأن وجوه البشر هي المرآة العاكسة لما في نفوسهم، فهو لا يستطيع التجرد عما يدور حوله من معاناة الآخرين ومن أحداث يعيشها الناس  فهدفه دوما الإنسان. 
الصياد والفريسة:
روائح الفن المتشربة بعرق الحياة تقطب الجرح الذي فاض وجعاً،  وعندها فقط يدرك بأنه الصياد والفريسة معاً؛  فالوجع الذي لا يلامس القلوب ويصيد الأفئدة ليس بوجع، والريشة التي لا تنهل من نفس الكأس لن تعرف ما هو الخلق، وليست جديرة بالبقاء؛ وكلما نهل أكثر، وأكثر من رش الملح على الجرح، أدرك بأنه صياد ماهر، فالقوس انكسر من الشد والفريسة وقعت تصارع الألم، والمشهدية اتضحت رويداً رويداً تحت ضوء القمر، ومع ذلك هو لم يأمل أن يصبح رساماً مع نهاية كل لوحة إنما كان يسكن وجعه فقط، فالشغف الحقيقي لا حدود له.
الرضى:
كسنابل القمح المصطفّة ببراعة، وتحت وقع ضربات الريشة، ووسط الحقول الممتدة والأحلام الهاربة، والمخزون اللوني البصري والفكري والإجتماعي تكبر اللوحة، وتشتد، والتي هي مخزون مشاعر وأحاسيس وتجارب مر بها خلال حياته، بكل ألوانها من لحظات سعيدة أو معاناة، وترقص الريشة طرباً وألماً، كل الألوان لها أهميتها في أي عمل فني، ولكن كل لون له مكانه ومكانته في نفس الفنان، وهذا ما يفسر اهتمامه وبروز بعض الألوان في لوحاته أكثر من غيرها، فنظرته للحياة ليست مقتصرة على نفسه ومن حوله، بل كل ما في الحياة يستوقفه ويهمه، وذلك كله له دور في البناء الذي يمر بمجموعة مراحل يبدل، وينقص، ويزيد، إلى أن يقتنع ويرضى، ليركنها جانباً ويبدأ بعمل جديد. 
علاقة الماضي بالحاضر: 
من طقوس إلهامه سماع الموسيقى القديمة وبعده عن الناس لساعات طويلة، لتبدأ رحلته مع لوحته، والموضوع نسبي، هناك كثير من الفنانين عندما ينتهون من عمل اللوحة يشعرون بأنها لوحة مكتملة الجوانب، فنا وموضوعا، وتكون بالنسبة للمتلقي لا قيمة لها. وأحيانا بعض الفنانين يرسمون أعمالا غير مقتنعين بها على الإطلاق وليسوا راضين عنها، وتكون بالنسبة للمتلقي عملا مبهرا ومميزا، وبأسوأ الأحوال اللوحة بلا هدف وموضوع تبقى قيمة جمالية كمكمل لما حولها. 
بداية جديدة: 
"أنا دائما في حالة استعداد ومتعطش للرسم"، بيع اللوحة لا يعني التخلي، وإنما هو بداية جديدة، ولا ضير من بيع اللوحة مقابل مبلغ من المال ليعيش الفنان، فمن اشتراها أعجب بها وبالتالي سيحافظ عليها، وستكون علامة للتعريف على من رسمها. فحزنه على بيع اللوحة لا يشعر به كثيرا، على العكس تماما بل يكون سعيداً لاختيار أحدهم عملا من أعماله، هناك لوحات وقف أمامها طويلاً، وأهمها على الإطلاق، لوحة الغزال التي أثرت في نفسه، وكان حزيناً على الغزال الذي كان يصرخ والكلاب تنهشه من كل جانب، وهي من اللوحات التي احتفظ بها لفترة طويلة، ولم يرغب ببيعها، رغم رسمها بطلب من أحدهم. 
وجهة نظر فنية:
أعماله منذ أكثر من خمسة عشر عاماً هي من مخزون ذاتي، رغم أنها تبدو كأنها أماكن معروفة، وأشخاص معروفين، إلا أنها كلها ارتجالية، يطلق عليها "الخيالية الواقعية". العمل الفني، ليس بالضرورة أن يكون مقتصراً على أسلوب واحد أو مدرسة واحدة، ربما يكون جانبا من اللوحة مساحة من الألوان، وربما يستطيع أن يكمله بخطوط وكأنه رسم بدائي. يحبذ أن يحدد بخطوط قاسية الوجوه والأشكال، فاللوحة بالنسبة له، مجموعة من الأشكال والتكوينات والفراغ والأحجام والظل والنور والخطوط، وكل هذه الاشياء أو جزء منها لا يضير ولا يغير في النتيجة، وكلها مسموح بها لأي فنان. عالم الفن واسع، وكل فنان يختار ما يناسبه ويريحه في الحصول على النتائج التي يراها هو مميزة، فالفن بحر واسع وتنوع أدواته وتعدد الخيارات يؤدي لنتيجة خلاقة مبدعة، وهذا هو العمل الفني. 

الفن
هو غذاء الروح لا تهب رياحه إلا على النفوس الظامئة للحياة، فتستقي أشرعة الوجد وأروقة الصمت، عندها تقف الكلملة الناطقة، عاجزة أمام لغة السكون. والفن لم يكن يوما رمحاً في خاصرة الفنان ولم يكن سيفا على عنقه، بل الفن، هو حضارة وإنسانية، وهو وسيلة يستطيع أن يعبر فيها الفنان عما يدور في نفسه، نيابة عن كثير من الناس. 
المرأة في لوحاته هي رمز الإنسانية والعطاء، كانت وما زالت وستبقى المؤثر الأكبر في عالم الفن، والمؤثر الأقوى في الحياة. الفن دوما يحتاج لحضور المرأة، فهي الأم والحبيبة، وهي الطفلة، ولا شك أن تكون حاضرة في أغلب الأعمال، وهي في أحلامه من عبق ذكريات الماضي، والواقع الذي يعيشه. 
الشارع السوري، ليس بعيداً عن الأعمال الفنية، تستهويه وتستوقفه، وبنظره تخطى مراحل بعيدة في عالم الثقافة والفن، وهناك كثر من السوريين يقتنون الكثير من الأعمال الفنية ويتحدثون عن الأساليب والمدارس الفنية، وتستوقفهم أسماء فنانين عرب وعالميين، كما لديهم رؤية ورأي في الفن وأساليبه.
"رسمت نفسي عدة مرات، وكنت في كل المرات حزينا". 
رسم الحقول والقرى القديمة، والوجوه المتعبة، ولا شك أن هناك علاقة وثيقة بين تلك الوجوه وتلك الحقول. فهما وجهان لعملة أصيلة واحدة. مهما طالت به السنين في بلاد الغربة، ما زال خطاب ابن حوران - سوريا، يحمل تراث وعادات أهله وبلده. وأعماله مهما بلغت من الابتعاد خلال سنين الغربة، فما زالت تحمل عبق الوطن, بقساوة خطوطها، وأحيانا ألوانها الصارخة، وملامح وجوه أبطالها التي تفبض ألما وحزنا. 
أعماله
أقام أكثر من عشرين معرضاً فردياً، في قبرص واليونان، ومعارض أخرى مشتركة مع فنانين، وفعاليات فنية في أكثر من دولة أوروبية وعربية. وبرأيه مع وجود عالم الإنترنت والسوشال ميديا، فقدت المعارض حصريتها، باستطاعة الفنان إيصال أعماله لآلاف المتابعين والمهتمين.