زمن ترامب: الاستبداد ينتعش، فمن يقطع دابره؟

ترامب ليس شذوذًا في التاريخ الأميركي، بل نتاج تراكمات نيوليبرالية وتوسع عسكري وتفاوت طبقي.

لو طرح سؤال عن أكثر القادة الذين أثاروا الجدل حول التزامهم بالديمقراطية، لاحتل دونالد ترامب صدارة القائمة. الأمر لا يتعلق بشخصيته المثيرة للانقسام فحسب، بل بالسمة الجوهرية التي طبعت عهده، وهي تحويل السياسة الأميركية إلى آلة للفوضى، تعيد تشكيل المشهد العالمي وفقا لمنطق القوة.

ففي اللحظة التي اعتقد فيها العالم أن الديكتاتورية العالمية قد بلغت ذروة انحدارها، وولت من غير رجعة، جاء الرئيس الاميركي ليثبت أن القاع ليس له نهاية. فما الذي حوّل ترامب إلى "ماكينة أزمات" تطحن الحلفاء والأعداء بذات القسوة؟.

ترامب ليس شذوذًا في التاريخ الأميركي، بل نتاج تراكمات نيوليبرالية وتوسع عسكري وتفاوت طبقي. الجمهوريون مهدوا له بتقويض الثقة في الإعلام، والديمقراطيون شاركوه في سياسات الهيمنة. الفارق أنه كشف هذه التناقضات بصراحة غير مسبوقة، محولا السياسة إلى عروض هزلية تختفي وراءها حروب اقتصادية وتهديدات منظمة.

ما فعله ترامب لم يكن دفاعا عن اميركا، بل تخريبا ممنهجا لنظام التجارة العالمي، تصرفاته تشبه مقامرا يحرق طاولة اللعب إذا خسر الرهان، او طفلا غاضبا يكسر الدمى إذا لم يحصل على اشياء الآخرين، هل هذا ذكاء نوعي، أم عودة لزمن الاستبداد؟.

مع العلم ان الاستبداد الحديث لا يحتاج إلى زعيمٍ كاريزماتي، بل إلى آلةٍ تخلق الفوضى ثم تتدخل لإدارتها. فترامب لم يكسر القواعد فحسب، بل كشف أن القواعد نفسها مرنة بما يكفي لخدمة مصالح النخبة فقط.

الخطير في نموذج ترامب ليس فساده، بل نجاحه في تسويق هذا الفساد على أنه "عبقرية استثنائية". وإذا أخذنا في الاعتبار أن الفساد لا ينتصر عندما يوجد بل عندما يُصبح مقنعا كنظام شرعي، فإن نجاحه وانتشاره يثير الذعر خاصة حين يعتمد على آليات تزييف الوعي، ويقوض قيم الديمقراطية ومكاسبها التاريخية.

فبعد عقود من التقدم النسبي في تعزيز الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وسنوات من الدعم الغربي لهذه القيم، يشهد العالم تراجعا خطيرا في هذا الميدان. تشير بيانات البنك الدولي إلى تراجع 25 دولة إلى الحكم الاستبدادي منذ 2016، بينما تصنيف "فريدوم هاوس" يظهر أن 2024 كان أسوأ عام للحريات منذ 2005.

وفي صميم هذا الانحدار، تظهر السياسات الأميركية كعامل رئيسي، سواء الحزب الديمقراطي او الجمهوري، وسواء من خلال ممارساتها التعسفية والاستبدادية، أو تواطؤها الصريح في ارتكاب هذه الجرائم، وحكاية غزة العزة (34 ألف قتيل منذ أكتوبر 2023) أبلغ من أي مثال.

فهل يمثل هذا الصعود العالمي للاستبداد مجرد انحراف عابر في مسار الديمقراطية؟ أم أننا إزاء تعفن هيكلي قديم، ظل كامنا في جسد النظام العالمي، وحان الوقت لبروزه؟. كل شيء وارد، ولكن الحقيقةَ اننا أمام منعطف تاريخي تواجه فيه الديمقراطية أعظمَ اختباراتها.