سؤال النهضة

ثمة حاجة لمشروع ثقافي يرفع منسوب الهوية ويؤمن ببناء الدولة ولا ينجر وراء القبلية والنزعة الضيقة او في حزب إيديولوجي عابر للحدود.

سال حبر كثير حول عنوان المقال وهو سؤال النهضة ولماذا تقدم الغرب وتأخر العرب ومنذ مالك ابن نبي وحتى الان وبما ان السؤال مازال قائما فهذه مشاركة متواضعة كأحد المهمومين بقضاينا الراهنة.

اُطلق اسم عصر النهضة على فترة زمنية استمرت من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر. وكانت بدايتها في أواخر العصور الوسطى من إيطاليا ثم أخذت في الانتشار إلى بقية أرجاء أوروبا تخللتها حركة ثقافية وفنية بالإضافة إلى التطور الصناعي.

واكب هذا التغير تحول من مجتمع السكون إلى مجتمع المخاطرة.. سمة عصر التغيرات الكبرى حيث نحت المفكر الالماني اوريش بك مصطلح "مجتمع المخاطرة" الذي جاء بعد الثورة الصناعية في اوروبا والتحول إلى الفردانية ونهاية عصر الاقطاع الذي فصل الدين عن الدولة. طبعا المقصود هنا هو الدين الكنسي التي تحالفت مع الاقطاع واستعبد الانسان. كل هذا تجاوز العقل الجمعي ونشأت الظاهرة الفردانية.

هذا ببساطة هو حقيقة التغير الذي حدث في اوروبا: دخول عصر الصناعة وتأثيث فكري لعهد النهضة وداخله مشروع الحداثة.

الظروف الطبيعية والصيرورة قادت إلى تسلسل زمني للتغيير الطبيعي في اوروبا.

بالمقابل كل محاولات التغيير عندنا جاءت قسرية وبالقوة وهنا المشكل. تحول في النمو الاقتصادي دون تنمية... مطالبة بالديمقراطية دون الدخول في العصر الصناعي... مطالبة بالحرية دون التخلص من الابوية.

ولذلك تبدو الاشياء مثل إيحاء بالحركة بدلا من الحركة نفسها. ومعظم المشاريع تؤول للفشل لانها لم تحل المشكل البنيوي اصلا ولجأت لمعالجة المشكل التشغيلي. كمن يريد ان يغير سائق دراجة ذات عجلات مربعة وليست دائرية. مهما غيرنا السائق لن تتحرك.

النهضة من وجهة نظري، مرتبطة بالتنمية المستدامة. والاستدامة شرطها الرئيس هو القدرة على التعامل مع المتغيرات والاهتمام بالتعلم بالاضافة للتعليم.

 تعلم يقود للتفكير في حل المشاكل التي تواجه الدولة والمجتمع ويكرس روح المبادرة.

 غياب مشروع حداثة حقيقي يقوم على التغير الواعي وليس تغير الطفرة كان هو المعضلة الحقيقة عندنا كشعوب عربية.

كل مفكري الحداثة عندنا تقريبا انتقدوا ونسفوا المشاريع القائمة دون اعطاء بديل لمشروع فكري يصمد امام النقد ويحقق واقع يمكن الاستناد اليه والبناء عليه.

عندما كتب أستاذ العلوم السياسية وأحد أهم مفكرين المحافظين الجدد الكاتب الأميركي من اصل ياباني فرانسيس فوكوياما كتابه "نهاية التاريخ" قامت الدنيا ولم تقعد لهذا الكتاب الجدلي الذي اراد به الكاتب الاميركي الوصول إلى نتيجة هي سيادة النموذج الاميركي للسياسة والاقتصاد في العالم..ولكني ارى الموضوع من جهة أخرى هي أن الاقرب إلى الحقيقة هي أن العالم يتجه إلى نهاية الجغرافيا وليس إلى نهاية التاريخ.

فاليوم وخاصة في العالم الغربي من اميركا وكندا إلى الاتحاد الأوروبي الذي يجمع معظم دول قارة أوربا لم يعد للجغرافيا معنى. فتجد من يولد في ستوكهولم وينتقل للعيش أو للتقاعد في اسبانيا أو اليونان.

لم يعد للشركات العابرة للقارات مقرات رئيسية فحيث جنة الضرائب هي أرضها.

مفهوم ما بعد الدول ترسخ. فأنت تنام في قطار من روما حتى كوبنهاجن أو وارسو ولا يوقظ مضجعك شرطي جوازات يبحث عن تأشيرة.

ثورة الاتصالات قصة أخرى تصب في صالح نظرية نهاية الجغرافيا فلم تعد تحتاج إلى مقر قار بل فقط عنوان الكتروني مجاني على أحد محركات الانترنت مثل جيميل وياهو وهوتميل.

كما أن تحويل الأموال وحجز الفنادق والتذاكر أصبح متاحا عبر جهاز محمول ذكي في حجم كف اليد. كل ذلك نتائج ثورة العقل في مجال الاتصالات واكبت تطلعات البشر من حرية.

تماما مثل نتائج انتقال المجتمع من مجتمع زراعي أقطاعي إلى مجتمع صناعي إبان الثورة الفرنسية التي حررت الإنسان. اليوم الثورة العلمية الثانية التي قضت على الجغرافيا وحدودها ليعيش العالم الحر في نهاية الجغرافيا. ثورة توحد المركز وتفتت الأطراف. ولا عزاء للشعوب المتخلفة التي تعيش خارج التاريخ والجغرافيا.

جانب اخر انتهى مثل انتهاء الجغرافيا وهو التقسيم الطبقي الاجتماعي.

فعندما تحدث ماركس عن الوعي الطبقي كانت الشعوب تعيش في حالة تقسيم طبقي أفقيا، حيث العمال واصحاب العمل والنبلاء.

كل ذلك تلاشي مع عصر جديد عصر حداثة أصبح فيه التقسيم عموديا وليس افقيا.

بمعنى أن تجد طالبا في درجة الدكتوراه -وهي أعلى درجة علمية- يعمل نادلا في مطعم او حامل حقائب في فندق في مرحلة محددة ليستطيع أن يدفع ثمن دراسته الجامعية وتخصصه الدقيق في الطب أو الفيزياء أو الاقتصاد أو القانون.

فلم يعد ممكنا تصنيف هذا العامل انه من طبقة البروليتاريا المسحوقة وهو قريبا سيصبح أهم من صاحب العمل نفسه. هذا الطالب لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يصنف بأنه من طبقة العمال المصنفة في عهد ماركس، بل اصبح الطالب مالكا للسلطة من خلال المعرفة كما قال المفكر الأميركي عالم الاجتماع آلفين توفلر في كتابه "تحول السلطة" عن "المعرفة والعنف والمال مقومات السلطة الثلاثة".

 كما ان التقدم التقني خاصة في مجال الاتصالات وشبكات التواصل الاجتماعي خلق نوعا من التواصل المباشر مع المتلقي عبر الحدود دون المرور بحارس البوابة (شبه الأمي) فأصبح ارسال كتاب ومجلد في لمح البصر عبر الانترنت.

وساعد التواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا في سقوط انظمة في ما سمي بظاهرة الربيع العربي.

هذه الثورة غيرت مفهوم السيادة واصبحت السيادة مدى تأثيرك في الاخرين ومدى تأثرك بهم.

ثورة الإتصالات خلقت نوع من الاقتصاد يسمي بالاقتصاد التشاركي. وهو مثل مشاركة مالك السيارة وقت فراغه في عمل يدر دخلا، بغض النظر ان كان صاحب السيارة متعلما ام لا. وهي تجربة شركة أوبر في اميركا واوروبا.. وحتى شركة أيربيأنبي.

كما اصبح في قدرة العامل ان يمتلك اسهم في الشركة التي يعمل بها ولم يعد عاملا فقط بل عاملا وشريكا في نفس الوقت.

بل وكثيرا من المهن اصبحت تدار بروبوت وليس عاملا.

كل هذه التغيرات جعلت علماء الاجتماع يصنفون هذا العصر بعصر الحداثة المتأخرة على رأي عالم الاجتماع البريطاني أنطوني جودنز. عصر الحداثة المتأخرة ربط الإنسان بالتقنية التي حررته من سلطة الإقطاع ولاحقا سلطة الدولة وأصبح يعيش الإنسان في اللا مكان.

فلم يعد المكان ذا قيمة بعد نهاية التاريخ ونهاية الجغرافيا ونهاية التقسيم الطبقي.

كل هذه المتغيرات تتطلب تعاملا مستمرا ومستداما يقود لتحقيق تنمية مستدامة تقود لبرنامج النهضة.

يعتمد برنامج النهضة لأي بلد على ثلاثة مشروعات رئيسية: المشروع الثقافي وتوطين المعرفة وتوظيف التقنية.

فالمشروع الثقافي لابد ان يحض على العمل والابتكار والسلم المجتمعي والابتعاد عن العنف والتكفير والكراهية وهذه مسؤولية الخطاب الديني. فالدين هو عقيدة للمؤمن وحضارة لغير المؤمن يعيش في البلد في امن وامان.

مشروع ثقافي يرفع منسوب الهوية ويؤمن ببناء الدولة ولا ينجر وراء القبلية والنزعة الضيقة او في حزب إيديولوجي عابر للحدود.

مشروع ثقافي يضم العرب في كيان اقتصادي واحد فنهضة الدولة ورائها الامة فنهضة ماليزيا كان ورائها الامة الماليزية واندونسيا وحتى تركيا... مشروع ثقافي يحض على العمل المستمر والدائم يترجم كلمة الفلاح التي نسمعها خمس مرات يوميا إلى واقع وعمل مثمر ومستدام. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لو قامت الساعة وفي يد احدكم فسيلة فلا يقم حتى يغرسها.

مشروع ثقافي يحارب الفساد ويجعل مرتكبه منبوذا حتى وإن كان من سادة المجتمع مصداقا لقول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. فالفساد هو البالوعة التي تتسرب فيها اموال الدولة دون استفادة ويخلق حالة من الغبن التي تقود كثيرا للعنف والجريمة وحتى الثورة.

اما توطين المعرفة فيبدأ من البحث والتطوير في كل القطاعات لفهم الإطار النظري والاساس المنهجي لطبيعة الاشياء. فالعلم جاء باحثا عن الحقيقة ويقود لاقتصاد منتج يتموضع داخل اقتصاد عالمي ويتفاعل معه يراعي الجودة ومتطلبات البيئة.

اخير توظيف التقنية التي تقلل الفساد والتعامل مع البشر وتقليل الزمن وتقليل السعر ورفع الفاعلية والكفاءة للمنتج والمؤسسة.