سارة اللافي في ديوانها 'جنون شقية': القصيدة في بوحها فتنة

الشاعرة التونسية تستعين بالذاكرة والمخيلة وما اختزنته الذات من رؤى وهواجس في إصدار مولودها الشعري.

ما كانت خاتمة المسافات نهاية... هي البدء في عزف ترانيم زمن جديد، بعدما تخطت الكلمات العوائق الفاصلة بين عدمية الغياب وبعث الوجود والارتقاء صعودا على سلم الإيقاع الشعري "السوريالي".

كشف عن روح الأنا تقدمه الشاعرة التونسية سارة اللافي في ديوانها "جنون شقية" وهي تطلق خزينها المخبوء فيما مضى، خشية الصدام مع من انبرى لمقاضاة البوح المحرم في قانون عرفي، فتراها تحيي في عصرها الراهن ما حرمه عصر سبق، وتلك هي تقنية الشعر الموغل في عمق معناه، مشاكسا حواس المتلقي المتأهب لقراءة لغة عصره قبل أن تعلق في رفوف الذاكرة:

الرغبة كشفت بوحها الفضي

على دفتر الذكريات

تطارد فحيح الزمن الضائع

توقف.. توقف!!

 ذاك هو مكان "جنون شقية" بوح "حسي" في فعل مقروء على شكل مدونة محفوظة في درج مكتب مقفول برقم سري، أما الزمان ماض ينتزع حضوره المعاصر في فعل حركي وجودي.. لا مجرد حروف مرتبة في نص نثري.

لكن جغرافيا الزمكان يقرأها الأديب الجزائري صلاح الدين مجدوب في تقديمه لديوان سارة اللافي وفق منظار نقدي آخر يرى فيه بعدا أسطوريا غير محدود، لا يخضع لمقياس العقل والمنطق، فالزمان في "جنون شقية" زمان شعري لا زمان تاريخي تقويمي، وحتى المكان فهو لا ينتمي لجغرافية طبيعية، وإنما ينتمي إلى العالم الداخلي للإنسان تحديدا في رقعة إحساسه وشعوره.

الشاعرة التونسية سارة اللافي
قيمة البوح حرية ترسم من خلالها سارة اللافي خارطة حضورها الفردي

لكن إذا ما غاب التشخيص الزماني – المكاني في قصائد سارة اللافي عمدا، فإن هذا الغياب لا يلغي وجودهما طالما انتسبت القصائد إلى شاعرة لها خصائص هويتها في بيئة لا تنفصل عنها تؤثر فيها وتتأثر:

شاعر بين المدائن يعيش الرغد

يعود إلى ذلك الجسد المحاصر

بضباب قديم تغار عليه الأمنيات وصولا

يلهث عنيدا في أنامل الضياع

يستدرج شفاه ثكلى في مواسم القبل

غاب وهو مغترب في دياره

سجين في صمت سحيق

يخشى المشي على شاطئ مضطرب

أضحت فلسفة البوح في إيقاع شعري نثري، خاصية تقنية في صياغة الرؤية التي استجمعت تفاصيلها الشاعرة سارة اللافي ببعدها الروحي الحسي وبعدها الحياتي "المادي" تكامل فيها الإيحاء المجسد للروح والجسد في خارطة بيئتهما المشتركة، فهي التي تعترف بجرأة متمردة أن: "القصيدة في بوحها فتنة"!!!

حقا ما قالت: "القصيدة في بوحها فتنة" تتنافر فيها الكلمات وتتضارب المعاني في دائرة صراع المدنس والمقدس:

أنا امرأة من وراء النهار

تجمع كل المشاهد غبطة جدباء

وتهب إلى الفردوس لتغني مواويل

تلامس فحيح المناجاة وراء شعائر الغروب

حياة بأزمنتها المتلاحقة تعالت في رؤيا شعرية، لها معالم وجودية، جعلت من قيمة البوح حرية ترسم من خلالها سارة اللافي خارطة حضورها الفردي رغم العقبات العرفية التي أعاقت بناء قصائدها ما دعاها إلى الاستعانة بالذاكرة والمخيلة وما اختزنته الذات من رؤى وهواجس في إصدار مولودها الشعري "جنون شقية" عن دار خيال الجزائرية.