سبينوزا.. ثنائية الفكر والامتداد عند الله والإنسان

باروخ سبينوز أحد أهم الفلاسفة الماديين، وأكبر العقلانيين في القرن السابع عشر، وقد استفاد من الثورة العلمية الكبرى والقوانين الرياضية التي تشرح العالم الطبيعي.
الفيلسوف اليهودي أقام بناء هندسيا ًفي تحليله للإنسان وانفعلاته، وفسر الله تفسيراً علميا ًمحضاً
آينشتاين وداروين وكل العلماء والفلاسفة آمنوا بإله سبينوزا. وكل من انتصر للفلسفة المادية

اشتد صراع الفلسفة المادية والمثالية في أوروبا إبان عصر النهضة، فكانت المثالية تخفي تحت أقنعتها وجوهاً لاهوتية، أو أوهاماً ممتعة إن صح التعبير، فكان شعار أن الروح هي التي تخلق المادة، وجوهرها، وأن الماهية تسبق الوجود أحد أهم أسس الفلسفة المثالية. من أهم رواد الفلسفة المثالية المعروفين هو القس والفيلسوف الإيرلندي جورج بيركلي، الذي أنكر الوجود المادي والجوهر المادي للعالم، وكانت تعرف فلسفته باللامادية أو المثالية الذاتية.
يؤكد بيركلي أن الذهن هو الذي يخلق المادة عن طريق الإدراك الحسي حيث لا وجود للمادة إطلاقا إلا بالإدراكات التي يكونها الذهن عن طريق الأحاسيس، وأن كل شيء ثابت، فالأشياء لا يمكنها أن توجد إلا بالإدراك.
بينما سعت الفلسفة المادية إلى الاقتراب من العلم ومناهج العلوم في تفسير الكون وظواهر الطبيعة، فالمادة توجد مستقلة بذاتها عنا، لها وجودها الخاص، وخصائصها، وصفاتها التي يمكن أن ندرسها بالبحث والتجربة التي تثبت أن العالم والأشياء من حولنا في تغير وتحول دائمين.
باروخ سبينوزا (1632-1677) أحد أهم الفلاسفة الماديين، وأكبر العقلانيين في القرن السابع عشر، حيث استفاد من الثورة العلمية الكبرى والقوانين الرياضية التي تشرح العالم الطبيعي، فقد أقام بناء هندسيا ًفي تحليله للإنسان وانفعلاته، وفسر الله تفسيراً علميا ًمحضاً، ففي القسم الأول من كتابه "الأخلاق" يرى أن الله والطبيعة هما وجهان لعملة واحدة وهو الجوهر الخالد بقوانينه الأزلية. وكل ما في الكون والطبيعة ما هما إلا تمثلات لله أو للجوهر الخالد المكتفي بعلته وذاته ووجوده لا غاية له ولا إرادة تنقص من كماله، فالضرورة هي التي تحركه دائماً.
ونحن لا نرى من هذا الجوهر إلا الفكر والامتداد، يتماهى جوهر سبينوزا كثيرا ً مع فلسفة ابن عربي ومبدأ الفيض في الأفلاطونية المحدثة.
يقصد بالفكر: قوانين الكون الأزلية الثابتة، والامتداد هو التجسمات المادية في الطبيعة بكل ما تحويه من شجر وجماد ونجوم وكواكب وبشر ...الخ.
ويعبر عنها  بشكل معادلات رياضية وهندسية معتمدا كثيرا ًعلى فلسفة رينيه ديكارت الرياضية، لكنه منشق عن الفلسفة الديكارتية وعن جميع  الفلاسفة التجريبين والعقلانيين في عصر النهضة، فسؤالنا عن الله وأزليته وصفاته هو مثل سؤالنا منذ متى  كانت (3+6=9)، أو منذ متى مجموع زوايا المثلث = 180 درجة. 

الأدراك الحسي للأشياء لا يعني أبداً معرفة صفاتها الجوهرية. وعي سبينوزا السابق لزمنه وتأملاته الدقيقة والعميقة في الطبيعة وسلوك الإنسان والكائنات الحية، جعلته ينفي الإنسان عن مركز الكون ومحور اهتمام الفلاسفة، بوصفه كائناً مميزاً بالعقل والوعي، يعزو سبينوزا سبب تفوق الإنسان أو قوته، إلى التركيبة الكيميائية المعقدة التي يتألف منها الجسم والعقل، فهو لا يرى في عقل الإنسان ميزة لكن مقدرة أو قوة، كما تتميز بعض الحيوانات والطيور عن البشر بقدرات أخرى.
وهذا يذكرنا كثيرا بنظريات في داروين في أصل الأنواع التي هبطت بالإنسان وقداسته من عليائه إلى أدنى حشرة  على وجه الأرض.
طبيعة المعرفة والإدراك
يدعو سبينوزا إلى إصلاح أنماط الإدراك الناتجة عن التجارب الحسية المباشرة وإلى المعتقدات الجوهرية الكامنة في طرق التفكير والتحليل من خلال فهم المشاعر والانفعالات البشرية.
فالمعرفة عند سبينوزا، هي الإدراك السليم وأنواع الإدراك تتمثل في أربعة: 
الإدراك العام. مثل معرفة الإنسان باسمه وباسم والديه ويوم ولادته.
الإدراك النابع من الخبرة أو التجربة الذي لا يتعامل معه العقل بالفهم أو التحليل. كأن ندرك أننا سنموت لو قفزنا من بناية شاهقة أو أن الأسد حيوان مفترس.
الإدراك النابع من معرفة الإنسان: مثل درجة غليان الماء تساوي 100 درجة. وتحول الجليد إلى بخار بالتسخين، أو معرفتنا بأن القمر أكبر مما يبدو عليه في واقعنا البصري. 
الإدراك النابع من المعرفة العلمية أو معرفة الأشياء من ماهيتها مثل دراسة الظواهر الفيزيائية والرياضية وربطها بالعلة الغائية لوجودها، هذا النوع من الإدراك يوصلنا إلى كيفية ارتباط العقل بالجسم إذا عرفنا بدقة ما هية العقل.
المعرفة عند سبينوزا تتكون من أفكار مجردة، أي أن لكل شيء مادي الفكرة التي تعبر عنه، فليس هناك انفصال بين الفكر والإمتداد. 
على الرغم مما تبدو عليه الأفكار من تجريد وعمومية فأنها  تشير في النهاية إلى فكرة بسيطة عن شيء ممتد، فالشمس مثلاً شيء مادي محسوس ومرئي، فالدائرة تشير بصورة غير مباشرة للشمس عبر فكرة الشكل الكروي، وكذلك الأمر إلى كل الأشياء التي لها امتداد في الطبيعة.
العقل والجسد عند ديكارت وسبينوزا 
إن الكوجيتو الديكارتي الذي ربط الفكر بالوجود كان يرى في العقل والجسد جوهرين منفصلين، فذهب ديكارت إلى أن الإنسان مكون من جوهرين منفصلين جوهر مفكر وهو العقل، وجوهر ممتد وهو الجسم، اعتمد ديكارت كثيرا على العقل المجرد بوصفه أداة لفهم الوجود والكون وجعله جوهراً مستقلاً ومزودا ًبصفات أولية أو معرفة قبلية مستقلة عن التجربة، عكس جون لوك الذي كان يرى في عقل الإنسان عند ولادته صفحة بيضاء نخط عليه تجاربنا وإحساستنا عن العالم الخارجي.
ويرى ديكارت أن العقل والجسد رغم وجودهما معاً، لكن وجودهما ليس ضروريا ًبل عارضا ً لأن الجسد يمكنه أن يوجد بدون عقل كما في حالة الأطفال والمجانين والحيوانات، والعقل أيضا ًيمكنه أن يوجد بلا جسد كما في حالة النوم وبعد الموت عندما يموت الجسد وتبقى الروح، ويرى ديكارت أن العقل موجود في الجسد كله لا في جزء فيه، فالعقل هو مصدر الإرادة التي تحرك كل أجزاء الجسد، وهو مصدر الأحاسيس التي يشعر بها المرء.

يذهب سبينوزا إلى أن الجسد والعقل جوهر يمثل صفتي الفكر والإمتداد، فالعقل والجسد عند سبينوزا هما صفتان للجوهر الواحد. فلكل جسد عقله الخاص، وموضع الفكرة التي تشكل العقل الإنساني هي الجسد، وهي صفة معينة للإمتداد وليس شيئاً آخر. أي أن كل ما يشعر به الجسد باعتباره إحساسا، يشعر به العقل باعتباره شعوراً أو فكرة.
تشعر النفس البشرية بأن الجسم ينفعل بالعديد من الطرق، إنها فكرة هذا الجسم، والجسم البشري يتواجد تبعا ً للشعور الذي لنا عنه. الجوع إحساس جسدي، أما الرغبة في تناول الطعام فهي شعور عقلي، فمثلما يشعر الجسد بالجوع، يشعر العقل بالرغبة.
اليهودي الخارج عن الملة
انحدر سبينوزا من عائلة يهودية هربت من محاكم التفتيش في إسبانيا عام 1492 وأجبرت على تبني المسيحية، وسموا فيما بعد "المرانيون"، وحصل على ثقافة متنوعة وثرية بين الإسبانية  واللاتينية والعبرانية، حيث قام بترجمة أسفار موسى الخمسة إلى الهولندية في أيامه الأخيرة. وكلمة باروخ في العبرية تعني المبارك. أنكر سبينوزا إله الأديان السماوية كافة، لأنه إله له غاية وهدف، وله بداية ونهاية، وله صفات وتفاعلات بشرية، كالغضب والانتقام والمكر، والفرح. 
أتهم سبينوزا بالإلحاد والهرطقة من الجماعة اليهودية وطرد من الكنيست، لكنه ظل مصرا ً على موقفه وأفكاره، حتى حياته العملية كانت حياة أخلاقية ومبدئية، عكس رينيه ديكارت الذي تملق كثيراً وجبن أمام الكنيسة حفاظاً على منصبه وحياته.
آمن آينشتاين وداروين وكل العلماء والفلاسفة بإله سبينوزا. وكل من انتصر للفلسفة المادية، وأضاء عتمة في تاريخ الفكر البشري. لكن السؤال الجوهري في زمن كثرت فيه الأوبئة والحروب واغتراب النفس عن عالمها. هل استطاعت حقا ًالفلسفات المادية أو المثالية أن تجد حلاً للإنسان ومعضلة وجوده الأزلية على هذه الأرض؟