سرد التخييل والعبور إلى المدينة الفاضلة

رواية "البحث عن أطلنطا" تبدأ بنبذة تاريخية تشكل خلفية ثقافية للرواية تتحدث عن تاريخ قارة اطلنطا الغارقة.
منظور الرؤية جاء من خلال عيون بطل السرد
الحوار جاء منسجماً مع لغته ومفرداته ومضرب الأمثال في ثناياه
زوجة العلامة الزهرى: والله أن هذه الكتب لأشد علي من ثلاث ضرائر

البحث عن أطلنطا في التاريخ والأدب:
تبدأ رواية "البحث عن أطلنطا" للكاتبة المصرية نوال منى، والصادرة ضمن مطبوعات كتاب "نون" بنبذة تاريخية تشكل خلفية ثقافية للرواية تتحدث عن تاريخ قارة اطلنطا الغارقة، وكيف كانت ذات حضارة زاهرة، لكن انحدارها الأخلاقي صب عليها العذاب صباً، فاختفت في غياهب العدم، وغرقت في المحيط الأطلسي، ومن حينها يسعي وراء حقيقتها وموطن غرقها العلماء والمفكرون، وأيضاً خيال الأدباء ومنهم الأديبة نوال مهنى.
تعد تلك المقدمة تمهيداً روائياً يتماس مع متن الرواية لكن برؤية تخييلة مورقة لقيم العدالة النافعة.
تجليات السارد وأضواء الوصف
السارد في الرواية كلي الحضور، كلي المعرفة، يشكل رؤية سردية خارجية لمجتمع القصة، ويحدث تبدل في الراوي إلي الراوي الذاتي فجأة صفحة رقم 9 "طرقات علي الباب توقظه من أفكاره وتعيد إليه انتباهه، أسرع إلى الباب لكي يفتحه، لا بد أنه عباس ابن خالتي ...."، ثم يعود بعد سطور قليلة للراوي العليم، وهكذا التناوب حتى تمام الرواية، والحقيقة أن تقنيات السرد تتحدث عن درجات من الرواة، والراوي العليم هنا قريب جدأ من الراوي الذاتي، صحيح أن ضمير السرد الغائب "هو" لكن منظور الرؤية تنطلق من انتظار الراوي الذاتي، يقول الراوي العليم: "مالت الشمس وأوشكت علي المغيب، ظل يتابعها بعينيه حتى اختفت تماماً، وبدا الشفق يغطي صفحة الأفق ...." ص 15.

أطلنطا رمز معنوي تم تجسيده روائياً للبحث عن المثال لذا كانت الخاتمة بالعبور إلى الواقع من أفق الحلم، ثم الارتداد ليس عبر سبيل العزلة والفرار من الشرور 

نلاحظ أن منظور الرؤية جاء من خلال عيون بطل السرد، فنحن إذن نرى رؤية ذاتية رغم أنه يبدو راوياً عليماً من ضمير السرد، إنه أقرب الرواة للراوي الذاتي، حيث يقل درجة عن الراوي العليم (المراقب العام) الذي يراقب فقط وينقل مشاهداته للمسرود عليهم في الرواية دون غوص وراء أفق آخر، أو اكتشاف جديد لم يعلمه أحد في مجتمع الرواية أو القراء، والأخير يقل درجة عن الراوي العليم كما جاء بالكتاب "المستبد" الذي يعلم الباطن والظاهر الروائي، لذلك أتى ضميرا السرد في انسجام ولم يشعر القارئ بغرابة في تبدلات السارد المفاجئة كل حين في الراوية.
كما جاء الحوار منسجماً مع لغته ومفرداته ومضرب الأمثال في ثناياه، لأنها تتفق وسمات الشخصيات الروائية الباحثة والمثقفة، فصفحتان رقما 11، 12 ورد في حوار بين مغامر وعباس ابن خالته أمثلة عربية ومقولات فصيحة: "مكره أخاك لا بطل"، "منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال".
عشق الكتب ودور المرأة الحضاري:
تستهل الرواية بمشهد طريف للبطل الروائي الباحث (مغامر) في حياته الزوجية حيث لم تحتمل زوجته الحياة مع رجل لا هم له سوى الكتب والمراجع، وهذا يستدعي عندي قول زوجة العلامة "الزهرى": "والله أن هذه الكتب لأشد علي من ثلاث ضرائر"، وذلك بعد أن ضاقت ذرعا بإقبال زوجها الكلي على كتبه الكثيرة والتي ملأت أركان البيت، ومثل هذه المقولة قالتها زوجة المازني عندما انشغل بمتعة القراءة عن ليلة عرسه، وهو الذى كان يقول: "كنت أقول لأمى: لك مؤونتك من السمن والعسل والأرز والبصل والفلفل والثوم، ولى مؤونتى من المتنبى والشريف الرضى والأغانى وهازليت وثاكرى وديكنز وماكولى، ولا غنى بك عن سمنك وبصلك ولا بي عن هؤلاء"، وتقول الرواية: "إن أبحاثه تستولي على كل وقته وتستأثر بكل اهتمامه ... واستغراقه في البحث ينسيه زوجه، بل ينسيه نفسه" ص 7 (بتصرف). 
وسدد بطل الحدث الروائي الثمن حيث تركته زوجته التي نفد صبرها بتعبير الرواية، لكن هناك ملمح اجتماعي موفق عن الزوجة التي تبتعد عن اهتمامات زوجها، أو حتي عن تعاطفها مع هذه الاهتمامات بما يصل بمركب الزواج إلي الغرق والانفصال: "... زوجه التي كان يأمل أن تشاركه هوايته في البحث والإطلاع، غير أنها بعد الزواج قصرت اهتمامها علي المطبخ والأعمال المنزلية، وانقطعت صلتها بالعلم فور تخرجها مثل معظم فتيات جيلها" ص 15، ويبدو هنا البعد المجتمعي، يأتي في ثنايا السرد إلماحا بالمقارنة مع نساء المدينة الفاضلة وكيف هن علي النقيض من فتيات هذا العصر.
أسئلة السرد والتخييل الروائي: 

نوال مهنى
دور المرأة في صناعة عالم المثال

اسم "مغامر" اسم مباشر يناسب الشخصية حيث إن الباحث والقارئ عموماً تثار لديه الأسئلة ويبحث لها عن إجابات، فالقراء عقول مفكرة في الأساس، وفي أسس البحث العلمي تسمي فروض البحث في مستهل الكتابة البحثية "أسئلة البحث"، وخاتمة البحث تمثل الخلاصات أو الإجابات حول هذه الأسئلة (تسمي اختبار فروض البحث)، والاسم والطريقة هنا تناسب أجواء التشويق الروائي خاصة حول قضية غامضة تثار حولها الفروض والأسئلة "اطلنطا الغارقة". 
يقول الرواي العليم: "تثور بداخله أسئلة كثيرة وتلح عليه ولا يجد لها إجابات مقنعة" ص 8، ثم يبدأ في سرد مجموعة من الأسئلة "حائرة ولا إجابة لها"، كما كانت أسماء "أوبال"، و"أسهار سيدة البحار" ملكة أطلنطا، و"كومار بن شومار"، تناسب طقس التشويق الروائي التي تم طهوها بتوابل وسحر ألف ليلة وليلة. 
ينتهي الفصل الأول من الرواية بلحظة ضعف للبطل الروائي في مناجاته الذاتية "إنها مغامرة غير محسوبة، بل مغامرة مجنونة" ص 16، وتلك اللحظة ثمرة طبيعية للتبشير بالقادم الروائي "انتابه الخوف من المجهول" ص 16، بما يدعم التشويق في أجواء منسوجه بالمغامرة العلمية.
الرواية تنتمي لنوع الخيال الموغل أو الفانتازيا، ويترسم أجواء ألف ليلة وليلة بتشويق فني محلي بقدرة ممتازة على الوصف والرسم بالكلمات، مثال: "في وسط الظلام الحالك رأي نافورة من الضوء تتراقص فوق الماء وتنشر خيوطها كشلال من النور يندفع إلي الأمام ويخترق ستائر الخيمة، ..." ص 18، وهذا الخيال مطرز بحقائق علمية مصاغة بطريقة سهله: "تحت الماء عالم غريب مريب، وأنواع من الكائنات تجل عن الحصر وطحالب ونباتات تتقاذفها الأمواج، صخور وجبال وهضاب، وشعاب ذات ألوان مختلفة تبدو كأنها بيوت وكهوف للأحياء البحرية، مغارات أسفل الجبال، ودهاليز أشبه بالمتاهات" ص 24، وشواهد الطقس الفانتازي كثيفة من "تناسخ الأجساد" لا "تناسخ الأرواح"، في تحرير المعني الفانتازي بمعنى أن الجسد يتبدل ولكن الروح وسماتها النفسية لا تتبدل، و"إكسير الذاكرة" لاستعادة الماضي السحيق.
أسرار المدينة الفاضلة "روشتة الواقع الأدبية"
أطلنطا تمثل هدفا قيميا للرواية، حيث تمثل اللامكان (اليوتوبيا)، حيث مثلت المدينة الفاضلة "الخالية من الأوبئة والفساد، ...، كل ما فيها حسن، لأنها تؤمن بالمثل العليا والقيم النبيلة وتطبقها، لذا فهي عامرة بالحق والخير والجمال والحرية والعدالة والمساواة) ص 39 (بتصرف)، وتقدم الرواية السبب السياسي حيث إن تطبيق القانون (نري الأنسب الدستور) مقدم، فالملكة أسهار تحكم فترة انتقالية لحين ظهور الوريث الشرعي، لذلك تنازلت فوراً لملك أطلنطا الأصيل طبقاً لدستورها، وتقدم الرواية سر مثالية أطلنطا الأخرى بفكرة مستمدة من الطبيعة "للورد شوك يحميه"، تقول أسهار نموذج المرأة الفاضلة المثقفة وليست مثل فتيات يبتعدن عن العلم في مفارقة ذكية من الكاتبة عن دور المرأة في صناعة عالم المثال: "الحكمة تقتضي أن تأخذ حذرك من أعداء غير ظاهرين، ربما يوجدون بيننا ولا نعرفهم، ومن ثم وجب الاحتياط، كما أن المثل والقيم السامية تحتاج لقوة تحميها فتردع ضعاف النفوس" ص 43، وبعد قليل: "نحن لم نحقق مملكتنا الفاضلة بالضعف بل بوجود القوة إلي جانب القانون الذي يكفل العدالة والمساواة والحرية للجميع دون تفرقة" ص 44.
إن أطلنطا رمز معنوي تم تجسيده روائياً للبحث عن المثال لذا كانت الخاتمة بالعبور إلى الواقع من أفق الحلم، ثم الارتداد ليس عبر سبيل العزلة والفرار من الشرور بل بطريقة العلم، يقول مغامر بطل القصة، صفحتان رقما 80 و81: "لن استسلم لليأس من العثور على القارة الضائعة، وسوف أعاود النظر في المراجع والكتب والخرائط، فأنا على يقين أنها موجودة  وسنعثر عليها في يوم ما، ولذا لن أتوقف عن البحث عن أطلنطا".