سعاد حسني... فاكهة السينما المصرية

تألقت في الستينيات بوصفها تعبر عن الفتاة المصرية التي تعلمت مع ثورة يوليو.
جابر عصفور يتحدث عن أعضاء الجماعة الإسلامية وزعيمهم في الجامعة عام 1971 
صحفي مصري كبير يقيم في لندن وتربطه وزوجته علاقة صداقة حميمة مع سعاد أكد لي أنهم قتلوها في 2001

في فيلم "على من نطلق الرصاص" يرن جرس التليفون في مكتب وكيل النيابة (عزت العلايلي) ليأتيه خبر وفاة مصطفى حسين (محمود ياسين) في المستشفى متأثرًا بجراحه، فينعكس الخبر الموجع على وجه سعاد حسني المترع بمشاعر شتى. في هذ اللقطة التي لم تفتح فيها نجمتنا فمها بكلمة واحدة، نتابع محزونين أثر الرحيل المباغت للشاب الذي أحبته وخشيت من ثوريته، فتزوجت غيره، هذا الشاب نفسه هو الذي أطلق الرصاص على زوجها – جميل راتب – رجل الأعمال المشبوه الغارق في الفساد والذي دبّر لاغتيال خطيبها الأول، مجدي وهبة!
هنا يكمن سر عبقرية سعاد حسني. وجه قابل للتلوّن والقفز بين الانفعالات المختلفة بيسر وسهولة، فما يعتمل في صدرها تبديه العينان الواسعتان بسرعة خاطفة، سواء كان الأمر مفرحًا أو محزنا، فسعاد.. بارعة في تجسيد حالة المرأة القلقة.. الحائرة.. المضطربة.. الخائفة.. العاشقة.. العنيدة.. الخانعة.. المقاومة.. كل ذلك بتعبيرات مقتصدة وصادقة وحقيقية، لا غلو فيها ولا إسراف.
نعيمة البريئة
يجب أن نذكر بكل امتنان القاص والصحفي والمبدع الراحل الكبير عبدالرحمن الخميسي (1920/ 1987) لأنه أول من اكتشف موهبة سعاد، وقدمها للمخرج بركات ليمنحها البطولة أمام محرم فؤاد في فيلم (حسن ونعيمة/ عرض في 2 مارس/آذار 1959)، في هذا الفيلم لم تكن سعاد قد بلغت عامها السابع عشر بعد (مولودة في حي بولاق بالقاهرة في 26  يناير/كانون الثاني 1943)، ومع ذلك اجتهدت قدر طاقتها لتقنعنا بأنها فتاة ريفية عاشقة لم تتركها المقادير والخطوب لتنعم بالزواج ممن تحب!
امتلكت سعاد وجهًا صبوحًا، تتوسطه عينان مشرقتان على الدوام، حتى لو كانت الهموم تنهب  روحها، فالبراءة تطل من هاتيك العينين بحثا عن الدفء والأمان، والخجل يقطر من اللفتة الرقيقة والحياء يسيل من الإيماءة البسيطة، وإن كنت ترى أن المبالغة في أداء سعاد كانت فاقعة نسبيًا في "حسن ونعيمة"، فذلك يعود إلى بكارة تجربتها مع فنون التمثيل، هذه البكارة التي ظلت تصاحبها في عدة أفلام قليلة تالية مثل (البنات والصيف لفطين عبدالوهاب/ 28 مارس/آذار 1960 - غراميات امرأة للمخرج طلبة رضوان/ عرض في 3 سبتمبر/أيلول 1960)، حتى تخلصت منها تمامًا وغدت ممثلة محترفة تتفهم دورها جيدًا، وتتقنه إتقانا يجعل كل من يراها يصدقها على الفور، وهنا تحديدًا تتجلى عبقرية الممثل الناجح!

ابنة ثورة يوليو
في ظني أن السينما إحدى أجمل اختراعات الإنسان، ففضلا عن كونها تعطر مزاجه بالتسلية اللطيفة، وتغذي روحه بالجمال، فإنها تعد وثيقة نادرة المثال عن زمن وعصر، فالمشاهد الحصيف يستطيع أن يستنبط من السينما أهم ملامح الزمن الذي أنتج فيه هذا الفيلم أو ذاك، وعليه يمكن القول بيقين كبير إن سعاد حسني أقرب نموذج للفتاة المصرية في عهد ثورة يوليو الممتد من منتصف الخمسينيات حتى موت عبدالناصر في 28 سبتمبر/أيلول عام 1970.
في تلك الحقبة فتحت الثورة الباب للتعليم المجاني، فدخلت الملايين من بنات الطبقات الوسطى والفقيرة الجامعات، وحلمن بأن يشاركن في بناء النهضة المصرية الحديثة التي حاول عبدالناصر والذين معه تأسيسها. هكذا إذن خرجت الفتاة من البيت لتتعلم وتعمل، وتذهب وتجيء متحررة من أفكار العصور الوسطى، ومتخفّفة من ملابس القرون المملوكية العثمانية.
في هذه الأجواء الضاجّة بالآمال والأحلام، لاحت سعاد حسني بوصفها أنصع نموذج للفتاة العصرية التي تتلقى العلم في الجامعة وتشارك في العمل، وتتعامل مع الحياة باعتبارها نعمة ومتعة، وليست نقمة وعقوبة.
عشرات الأفلام قدمتها سعاد حسني في حقبة الستينيات، وكلها تقريبًا تجسد فيها دور الفتاة المتعلمة المرحة المقبلة على الحياة، صحيح أن كثيرًا من هذه الأفلام اتسم بالخفة في التناول، والسذاجة في المعالجة، حيث اهتم صناع السينما بجني الأرباح على حساب القيمة، وقد استثمروا الحضور الطاغي لسعاد على الشاشة من أجل زيادة أموالهم، إلا أن هذه الأفلام منحت المشاهدين – وما زالت – مساحة كبيرة من البهجة والحبور، نظرًا لما تحتويه من مشاهد طريفة، ولقطات مرحة كشفت لنا الوجه المشرق للنجمة المتفوقة على الدوام.
أفلام خالدة
أكثر من 90 فيلمًا قدمتها سعاد حسني، كثير منها يصمد أمام الزمن، ويهب مشاهديه متعة صافية، وسأتوقف عند بعض هذه الأفلام المتميزة، لنكتشف معًا.. الموهبة الفياضة لهذه الفنانة الاستثنائية.
مع صلاح أبوسيف تصدت سعاد لبطولة فيلمين من أهم كلاسيكيات السينما المصرية، الفيلم الأول (القاهرة 30/ عرض في 31 أكتوبر/تشرين الأول 1966)، والثاني (الزوجة الثانية/ عرض في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1967).
يقول الناقد الكبير كمال رمزي عن سر سعاد حسني في كتابه نجوم السينما العربية: "شيء ما يتلألأ في روح سعاد حسني، ويظهر جليًا على الشاشة، ويبدو كسر من الأسرار التي يصعب إدراكها أو تفسيرها.. إنه ذلك النبل الخاص الذي يلتمع للحظة في العينين، مهما كان إذلال الموقف الذي تعايشه".
تنطبق هذه العبارة بحذافيرها في كثير من مشاهد فيلم (القاهرة 30)، فهي فتاة ولدت في بيئة ضعضعها الفقر ونهشتها أنياب الحرمان، أما الأب فمحروم من الأخلاق، ولا يوجع ضميره إن صارت ابنته عشيقة للرجل الثري، أما أمها فتحرضها تحريضا على ارتكاب الفواحش مادامت ستجني من ورائها المال الوفير. تتمزق روح سعاد بين حلمها في أن تعيش حياة كريمة مع حبيب القلب – علي طه – تظلهما أشجار الغرام وبساتين المعرفة، لكن مطرقة القدر أقوى، فتضطر إلى الزواج من شاب بائس (حمدي أحمد) يقوم بدور الزوج والقواد في الوقت نفسه.
من فضلك.. تأمل ملامحها وهي ترتدي أسمالا بالية وتتذوق الشمبانيا وتتناول الشوكولاته في بيت أحمد مظهر؟ ثم عاين لفتاتها، وهي "هانم" تذهب لتزور حبيب االقلب المصاب؟ يا سلام يا سعاد، لقد لاحت في المشهدين كشخصيتين مختلفتين تمامًا، برغم أنك تتعاطف معها في جميع الأحوال.

الزوجة الثانية
في لفتة ذكية ينتشل صلاح أبوسيف سعاد من أحياء القاهرة المثخنة بجراح الفقر والحرمان، ليقذفها في أحضان الريف المصري المحتشد بالبؤس المزمن، أيام كان العمدة والمأمور وأصحاب الأطيان يأكلون أموال اليتامى ويتركون الفلاحين عرايا منهكين بالكاد يتحصلون على قوت يومهم.
إنه الفيلم التحفة "الزوجة الثانية" الذي استوت فيه سعاد حسني فلاحة مصرية شابة تتعرض لمكيدة حقيرة لتطليقها من زوجها الذي تحبه، ليتزوجها قهرًا العمدة (صلاح منصور) الباحث عن ابن يرث ماله الحرام!
يتنوع أداء سعاد في هذا الفيلم بمهارة مدهشة.. فمرة خادمة مسحوقة، ومرة زوجة عاشقة تدبر حيلة لمواجهة جبروت العمدة الظالم صلاح منصور، ومرة تستثمر افتتان العمدة بها، فتكيد ضرتها (سناء جميل) وهكذا، وفي كل لقطة.. في كل مشهد.. تتعاطف مع هذه الممثلة الفاتنة وتصدقها، وليتك تذكر مشهد ليلة زفافها على (صلاح منصور)، وماذا فعلت حين فوجئت بزوجها الحقيقي (شكري سرحان) مختبئا تحت السرير!
زوزو وأول ظهور للتطرف في الجامعة
أما فيلمها الأشهر (خللي بالك من زوزو/ عرض في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1972) كما ذكر الناقد والمؤرخ السينمائي الكبير محمود قاسم في كتابه "دليل الأفلام في القرن العشرين... في مصر والعالم العربي"، فتسترد فيه سعاد علاقتها بعالم طلاب الجامعة، فترقص وتغني وتتقافز في معزوفة عشق للحياة، رغم أنها ابنة لراقصة شعبية تطاردهما بقايا سمعة تعسة لشارع محمد علي الذي كان محتشدًا بالعوالم، الأمر الذي جعلها تعيش مأزقا نفسيًا حادًا عندما ذاقت طعم الحب مع ابن الأثرياء (حسين فهمي). وفي مشهد موجع تجلّت سعاد عندما سخر أبناء الطبقة الثرية من أمها (تحية كاريوكا) الراقصة البدينة، فنهرتهم وقررت أن ترقص بدلا من والدتها، ولما سألتها أمها: (ايه اللي جابك)، قالت سعاد بنبرة تضج بالحزن والأسى والفرح لأنها ستنقذ والدتها من سهام المذلة: (جيت لاجل البخت).
المثير في هذا الفيلم أنه أول فيلم يتعرض للتطرف الديني الفكري الذي بدأ انتشاره في الجامعة مع بداية حكم الرئيس أنور السادات، حيث تقمّص (محيي إسماعيل) دور الطالب الكاره للفن والغناء الذي يهاجم زوزو بقسوة ويدعو إلى (الفضيلة) بمنطقه الخاص، وأذكر جيدًا أن الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور حكي لي، ونحن نتمشى في شوارع الكويت في يناير/كانون الثاني عام 2009، أنه رأى بنفسه، وكان معيدًا آنذاك، كيف أقدم أعضاء الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة عام 1971 بقيادة الطالب الذي صار رئيسًا لحزب سياسي فيما بعد، على اقتحام مسرح الجامعة وقاموا بالاعتداء على زملائهم الذين كانوا يجرون بروفا على إحدى المسرحيات بزعم أن الفن حرام!
الراعي... قمة التألق
ختمت سعاد حسني علاقتها بالسينما بفيلم "الراعي والنساء"، الذي أخرجه علي بدرخان وعرض في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1991، حيث قدمت واحدًا من أجمل أدوارها، ويكفي أن تتأمل تعبيرات وجهها المفعم بالحب والقلق والتوتر والخوف وهي تخاطب حسن (أحمد زكي) عندما قرر مغادرة النساء الثلاث وبيتهم المشحون بالكراهية والغضب، إذ قالت له بنبرات موجوعة: (ليه تمشي من غيري؟ ليه تسيبني؟ انت مش عارف المسألة دي ها تألمني اد ايه؟).  
على أية حال، كانت سعاد حسني طاقة فنية جبارة، وقد شاءت المقادير أن تنشأ، قبل سنوات قليلة، صداقة رقيقة بيني وبين صحفي مصري كبير يقيم في لندن منذ عقود، ومازال، وكانت تربطه هو وزوجته بسعاد حسني علاقة جيدة جدًا، فلما سألته: هل تعتقد أن النجمة الفاتنة انتحرت؟ نفى بشدة، وأكد لي أنها قُتلت. لذا عندما قيل إنها انتحرت في 21 يونيو/حزيران 2001 لم يصدق الناس الخبر المشؤوم، وظلوا يتساءلون في حيرة: كيف تُقدم على الانتحار من منحتنا كل هذه البهجة؟