مئوية ميلاد وحش الشاشة

في الذكرى المئوية لميلاده، والذكرى الثانية والعشرين لرحيله، نتذكر فريد شوقي بكل محبة وإجلال.
نجوميته الطاغية دفعت الأتراك لتقديم عدة أفلام من بطولته، فصار نجمًا كبيرًا في اسطنبول وأنقرة
مئوية فريد شوقي تستحق احتفالا يليق برجل وهبنا السعادة من قرن إلى آخر... ولا يزال. 

عندما تتأمل التجربة الفنية للراحل فريد شوقي، ستكتشف أن هوسه بالفن قاده إلى دروب عدة، فقد مارس كتابة القصة والسيناريو، وأسس شركة إنتاج مهمة، كما قام بالتمثيل في مئات الأفلام، علاوة على أن حظوظه في المسرح ليست قليلة، فكيف نقيم تجربة هذا الفنان المدهش بمناسبة مرور 100 عام على ميلاده، و22 سنة على رحيله؟ فقد ولد في 30 يوليو/تموز من سنة 1920 وغاب عنا في 27 يوليو/تموز من عام 1998.
تعالوا أقص عليكم نبأ هذا الفنان النادر في تاريخنا الفني الذي أسعدنا من قرن إلى آخر، والذي تتنافس الفضائيات على عرض أفلامه، لدرجة أنه لا يكاد يمر يوم دون أن يطل علينا بمودة من الشاشة ونحن قابعين في منازلنا.
ابن ثورة 1919
لا يمكن فهم ظاهرة فريد شوقي - وجيله كله - دون الالتفات إلى الدور العظيم الذي لعبته ثورة 1919 في تغيير وجه الحياة في مصر، هذه الثورة التي انتشلت الشعب من مستنقع القرون الوسطى المتخلف فكريًا وثقافيًا، وقذفت به في نهر الحياة العصرية الحديثة، (بلغ عدد المصريين عام 1927 نحو 14 مليون نسمة وفقا لما ذكره جمال حمدان)، وأظنك تعلم أن فنون المسرح والسينما والموسيقى والغناء بدأت في الازدهار والتألق في الأعوام العشرة التي أعقبت هذه الثورة الفريدة في تاريخنا، فسيد درويش ويوسف وهبي والريحاني وأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وروز اليوسف وفاطمة رشدي ومحمد كريم كلهم عززوا حضورهم الفني في هذا العقد المدهش، ومعهم طه حسين وتوفيق الحكيم وشوقي وحافظ والشيخ علي عبدالرازق وأحمد لطفي السيد ومحمود مختار ومحمود سعيد وغيرهم شاركوا في إضاءة أنوار مصر بدءًا من مطلع العشرينيات، فكتبوا ومثلوا وغنوا وأخرجوا ورسموا ونحتوا باعثين روحًا جديدًا في وجدان المصريين.

شاءت المقادير أن ألتقي فريد شوقي ثلاث مرات، الأولى في المسرح القومي بالقاهرة عام 1980، وأنا مازلت طالبا في كلية الفنون الجميلة بالزمالك

ابن البلد
من حسن الطالع أن فريد شوقي ترك لنا الكثير من اللقاءات التلفزيونية والإذاعية والحوارات الصحفية التي تكشف عن نشأته ونشاطاته وعلاقاته في مطلع حياته، وهكذا علمنا أنه مولود في 30 يوليو/تموز من سنة 1920 بحي الحلمية الجديدة، وأنه تربى في السيدة زينب الحي الشعبي الشهير، وأنه شاهد جورج أبيض والريحاني ويوسف وهبي على خشبة المسرح في صباه، ولعل النشأة في هذا الحي الشعبي أكسبته صفات أولاد البلد التي تتمثل في الشهامة والمروءة وخفة الظل، وهو ما انعكس على أدائه لكثير من الشخصيات الدرامية. (أفتح هذا القوس لأذكرك بأنه تجرأ ووقف على المسرح ليتقمص شخصية نجيب الريحاني نفسه التي قدمها في بعض المسرحيات مثل الدلوعة عام 1966). الأمر الذي يكشف حجم موهبته حتى في أداء الأدوار الكوميدية المغلفة بنزعة إنسانية كما كان يفعل أستاذه.
المعمار العملاق
أوتي فريد شوقي بنيانًا عملاقًا يتسم بالشموخ والقوة، فهو طويل بشكل لافت... (وصفه أحد الجالسين في المقهى في فيلم "جعلوني مجرما" بأنه "شحط"/ أي ضخم جدا). كما أن ملامح وجهه اتسمت بالجدية دون جهامة، وخلت من الوسامة الشائعة في زمنه، فالجبين منبسط، والوجنتان بارزتان، والشفاه غليظة دون نفور، والباروكة التي يضعها فوق شعره منذ عام 1952 ليست ناعمة مثل شعر أنور وجدي أو كمال الشناوي الذي يتهدل في أول لفتة مفاجئة، فتزيد من وسامة البطل وجاذبيته، وإنما باروكة فريد شوقي مصنوعة من الشعر العادي، لا ناعمًا مثل الحرير، ولا خشنًا مثل الخيش! 
هذه الملامح المتميزة أهلته لأن يلعب أدوار "الفتوة"... ابن البلد... الصنايعي... بائع ألبان... سائق شاحنة... جندي مقاتل... تاجر مخدرات... أي أن ملامحه أبعدته عن أدوار صاحب المهنة المرموقة والعاشق المتيم الغارق حتى النخاع في هوى محبوبته كما كان يفعل أبناء جيله مثل عماد حمدي وكمال الشناوي وشكري سرحان وعمر الشريف وأحمد مظهر، ما يعني أنه اختط لنفسه مسافة عن البطل الشائع في ذلك الزمان، ولعل لقب "وحش الشاشة" الذي منحه له جمهور البسطاء يؤكد صحة ما نقول، فرواد السينما في الخمسينيات كانوا من أولاد البلد الذي يحلمون برؤية (بطل) يخلصهم من الشر الرابض في المجتمع، بعد أن خلصهم جمال عبدالناصر من شر(الملك)، و(الإنجليز)!

فريد شوقي وعبد الناصر
من مفارقات القدر أن أول ظهور لفريد شوقي على الشاشة لعب دور ضابط مباحث، وذلك في فيلم "ملاك الرحمة" 1946 ليوسف وهبي، ثم راح يتقمص شخصية الشرير في أكثر من خمسة وعشرين فيلمًا حتى عام 1952، وكلها أدوار نمطية لا تكشف حجم موهبته، فهو قابع في كباريه أو بار يتجرع الخمر، ويسطو على أموال الراقصات، ويدبر المكائد للبطلة أو البطل، ويرفع حاجبه الأيسر منذرًا ومتوعدًا، ثم يقسم - كذبا - بشرف أمه!
حتى اقتنع به صلاح أبو سيف ومنحه البطولة المطلقة في "الأسطى حسن" الذي عرض للمرة الأولى في 23 يونيو/حزيران من عام 1952، ثم توالت بطولاته بعد ذلك حتى يمكن القول إنه أحد أهم علامات حقبة الخمسينيات، وقد ترافق صعوده السينمائي مع صعود جمال عبدالناصر في عالم السياسة، ففريد شوقي في الأفلام يقهر الشر ويقاومه، وعبدالناصر في الواقع يحارب الظلم ويقاوم الاستعمار، وكأنهما صنوان. واحد في الحلم - أي على الشاشة - والآخر في الواقع، وهكذا نال نجمنا لقب "وحش الشاشة" عن جدارة.
محطات في أدائه
رغم غزارة الأعمال السينمائية التي شارك فيها فريد شوقي، إلا أنه لم يكن يتمتع بمهارات فذة في التمثيل مثل زكي رستم أو حسين رياض أو محمود المليجي أو حتى يحيى شاهين ومحمود مرسي وصلاح منصور وعبدالله غيث، إذ ظل يتأرجح طوال الوقت بين الأداء المقبول، والأدء الجيد، ولم يذق طعم الأداء المدهش إلا مع صلاح أبوسيف الذي تمكن من تفجير طاقات التمثيل لديه.
البداية الرائعة انطلقت مع "الأسطى حسن"، ثم "الفتوة" 1957، الذي وصل فيه فريد شوقي إلى ذرى غير مسبوقة ولا ملحوقة في فنون الأداء، وجاء فيلم "بداية ونهاية" 1960 ليؤكد أن صلاح أبوسيف هو المخرج الوحيد الذي حرَّر موهبة فريد المتدفقة من أسر النمطية والتكرار.
عشرات الأفلام التي قام ببطولتها ملك الترسو بعد ذلك، حتى عندما استعانت به تركيا في  النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي فسافر إلى هناك ليقوم ببطولة مجموعة من الأفلام مثل "عثمان الجبار"، و"مغامرات في اسطنبول" وغيرهما... كل ذلك لم يظهر فريد شوقي بالكفاءة المرجوة إلا في سنة 1977 عندما تألق مرة أخرى مع صلاح أبوسيف أيضًا في "السقا مات".
ذكريات خاصة
شاءت المقادير أن ألتقي فريد شوقي ثلاث مرات، الأولى في المسرح القومي بالقاهرة عام 1980، وأنا مازلت طالبا في كلية الفنون الجميلة بالزمالك، حيث حضر حفل افتتاح مسرحية "رابعة العدوية" التي كتبها يسري الجندي ولعب أدوار البطولة كل من سميحة أيوب ويوسف شعبان ورشوان توفيق وأخرجها شاكر عبداللطيف. في ذلك اليوم اقتربت منه وصافحته وأنا غير مصدق أنني أقف أمام وحش الشاشة.
المرة الثانية كانت في مسرح متروبول عام 1981 عندما جاء ليشاهد عرض مونودراما قدمه الممثل المدهش عبدالرحمن أبو زهرة، وقد ثمل فريد من فرط الضحك، وارتفع صوته مهنئا، وصفق بقوة للأداء البديع لأبي زهرة، وبعد العرض تحدثت معه لمدة خمس دقائق عن أعماله وأحبها إلى قلبه، فذكر لي "جعلوني مجرما"، و"الفتوة" و"بداية ونهاية" و"كلمة شرف"، و"مضى قطار العمر"، ثم ضحك وقال لي بفخر "أعمالي كلها مميزة يا بني".

أما المرة الأخيرة التي رأيته فيها فكانت قبل وفاته بأقل من عام، (نوفمبر 1997)، وذلك في جنازة سعد الدين وهبة التي أقيمت في جامع عمر مكرم، حيث كنت مكلفا بتغطية الجنازة ونشرتها بالفعل في صحيفة "العربي" الناصرية التي كنت أعمل بها آنذاك. أذكر جيدًا وأنا أقف على باب المسجد أرقب المشهد العام، فإذا برجل طويل متهالك يسير ببطء في اتجاه المدخل، فلما اقترب اعتراني الذهول... إنه فريد شوقي نفسه! حقا... ما أبشع الزمن... إذ بدا لي شخصًا جفت في وجهه مياه الحياة، واعتراه الذبول، اقترب مني وسألني: "من أين يا بني؟"، فأمسكت يده وصعدت معه السلالم القليلة لندخل المسجد!
في هذه المقابلة الموجعة سألته عن صحته وأحواله، فبدا لي مستسلما للمقادير، قانعًا بالمصير، فلمات مات في 27 يوليو/تموز 1998 سارعت إلى ميدان التحرير في التاسعة صباحًا لأرصد أجواء جنازة وحش الشاشة التي ستخرج من عمر مكرم، وكان الزحام شديدًا والحر أشد، ومع ذلك مرت في خاطري وأنا أتأمل النعش مشاهد متنوعة من أفلام فريد شوقي ولقاءاتي الخاصة معه، وقد كتبت مشاهد الجنازة ونشرتها في جريدة "البيان" الإماراتية في ذلك الوقت! 
في الذكرى المئوية لميلاده، والذكرى الثانية والعشرين لرحيله، نتذكر فريد شوقي بكل محبة وإجلال، بقدر ما أسعدنا بأفلامه المتنوعة، وكم نأسف لأن وزارة الثقافة لدينا لم تهتم بمئوية أشهر نجم شباك في القرن العشرين.