سليمان الحقيوي يطرح 'أسئلة السينما المعلقة'
ما أن تتصفح كتاب سليمان الحقيوي للوهلة الأولى "أسئلة السينما المعلقة" حتى تجد نفسك غارقا في فيض هائل من علامات استفهام مختلفة عن مختلف معطيات الحياة الأدبية والشعرية، كمدخل للأسئلة السينمائية بوصفها امتدادا طبيعيا للفنون منذ رسوم الكهوف ونشوء الكتابة واللغة وإفرازاتها التعبيرية التي تجلت في هذا الشلال المنهمر من علوم وفنون ومعارف، تدفقت علينا، لتترك على ساحات الوعي البشري كثبانا متحركة، ولكي لا تُغرقنا بعصفها، علينا أن نستخرج منها خلاصات غير قطعية، وإنما أسئلة تحمل في طيّاتها الكثير من الأجوبة، أو كما يقول الأستاذ سليمان الحقيوي في مقدمته: "الكتابة هي الطريق الوحيد للإجابة على الأسئلة" وهذا ما وجدناه في كتابه "أسئلة السينما المعلقة" والصادر عام 2023 عن دار رؤية للنشر والتوزيع.
فقد تناول الغربة الجديدة أو اغتراب الإنسان في عالم تجتاحه الكمبيوترات ووسائل التواصل المختلفة والشبكة العنكبوتية، وحيث انتصر منطق السوق في أفضلية التواصل، وتفوّقت الصورة، أية صورة على بساطتها والتي لا تحتاج ليدٍ متمكنة أو عين خبيرة، لأن الأجهزة تتيح لنا التمكن، لأنها لا تحتاج إلى تقنية عالية، وبذلك فهي تتفوق في تأثيرها على أكثر الحروف بلاغةً، وأصبحت البيانات وعلامات التي ترمز للإعجاب أو الدهشة أو الحزن أو المحبة بديلا عن النقد والتأمل والقراءة الواعية.
لقد اشتمل الكتاب على أحَدَ عشرَ فصلا ومقدمة وخاتمة، مشفوعا بعشرات المصادر والمراجع في اللغة العربية والفرنسية والإنجليزية، ليكون بحد ذاته مرجعا آخر عن السينما، لما يمتاز به في عمق في التحليل، وبساطة في طرح الفكرة، وسمو في الأسلوب، فحالما تنغمر في قراءة الكتاب حتى تجد نفسك معلقا على صفحاته التي تسيل بفيض من المعلومات الأكاديمية، تمنحك الأجوبة، وتثير لديك في نفس الوقت الكثير من الأسئلة في عمليةٍ تخلق تفاعلا بينه وبين القارئ.
لقد طرح عددا لا يُحصى من الأسئلة، ومنها التاريخ والتخييل، بين سرد الواقع وسردية الكاميرا، فثمة فرق بين عرض النص التاريخي لتمجيده أو إعادة التفكير بالتمجيد، باعتبار أن النص له علاقة بعناصر المرجعية والسياق التاريخي واللحظة الراهنة. وانتقل الى الحقيقة ولغة السينما باعتبار أن الفيلم فنّ متعدد الأصوات، وتتجلى قيمته في تحريك المعرفة باتجاه المعنى، فالفيلم معادل للوثيقة التاريخية لأنه وسيط أكثرَ مصداقية في عرض الحدث والتحايل على سلطة الرقابة، فقد تكون روايات نجيب محفوظ التاريخية أكثر قربا وصدقا من التاريخ الرسمي المكتوب.
حينما تصدى لواقعية السينما، استطاع أن ينفذ إلى جوهر الواقعية التي لا تعني التعامل مع عنصري الزمان والمكان بذات الصرامة، بل إمكانية التعبير الصادق، فهي ليست المحاكاة للواقع بل الصدق في التعبير عنه، وكلما توجهت السينما إلى وسائلها الخاصة اقتربت من الحقيقة.
كما تناول سينما المؤلف التي تتميز بالتقشف الفني والابتعاد عن الاستوديو، ولكنها لم تنجح إلا في المهرجانات، وذلك يتعلق بنوعية المتفرج واختلاف تكوينه الثقافي من مجتمع إلى آخر، ولكن المؤلف السينمائي يختلف عن المؤلف العادي في كونه يتأثر بجملة مؤثرات لها علاقة بالإخراج والإنتاج وكتابة السيناريو والتصوير، لذا فسينما المخرج عصية على الاختزال في بضع معايير، لأنها تتلوّن بشخصية المخرج وموقفه ودرجة ثقافته ومزاجه.
تناول الكاتب أيضا موضوع السينما والأيديولوجيا، حيث إنّ الالتزام الفكري يبعد الأفلام عن الفن ويجردها من الإبداع، لأن الفيلم يبقى معلقا ضمن دوائر إيديولوجية لا يمكن تخطّيها، وخاصة في الأنظمة الشمولية التي تضع قالبا للرؤية الفنية، ولكنّه يُقر أيضا أن الأحداث الكبرى تؤثر على الاتجاهات الفكرية للسينما دونما ضغط، ويطرح مثالا على ذلك، حيث أن نكسة حزيران قد أثرت على توجهات السينما المصرية لفترة ليست بالقصيرة.
تصدى أيضا لموضوع العزلة والسينما من خلال بعض التجارب لبعض الدول في مكافأة نزلاء السجون بالانخراط بالقراءة لتقليص مدة السجن، مما دعاه أن يتساءل، عن كيفية تحقيق قراءة الكتب لغايتها! لاسيما وأن القراءة لم تُصبح اختيارا حرا، وإنما تحفيزٌ لتقليص المحكومية، كما تناول تجربة الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا التي خلقت حالة عامة من المشاعر المتناقضة من الخوف والتوجس وانعدام الثقة بالآخر، ولكنها من ناحية أخرى أجبرت البعض الى القراءة ومشاهدة الأفلام السينمائية، ولكن فكرة العزل في التجربتين (الجائحة والسجن) تجعل من العلاقة بين الإنسان والقراءة وسيلة انتهازية ستنتهي بانتهاء المؤثر. سواء في حالة التقليل من العقوبة، أو في حالة التخلص من ضجر الحجر.
تحدث في كتابه أيضا عن العلاقة الوثيقة بين الإبداع الكتابي والإبداع السينمائي باعتبار الأخير خطابا فنيا يشترك مع غيره من الخطابات الأدبية، ويجعله أكثر إفصاحا في التعبير. ورصد نقاط الالتقاء والافتراق بين العمل السينمائي والأدبي، مما دعاه أن يبسط الأمر بين لغة السينما التي تعتمد على اللقطة التي تساوي الكلمة، والجملة التي تعادل المشهد، مما يستدعي إشكالية المعاني الكامنة في كل لغة، والوصول إلى نتائج عن تفوّق الصورة وقدرتها التعبيرية، أو كما استشهد بقول كونفوشيوس بـ"أن الصورة خير من ألف كلمة".
توقف الحقيوي أيضا عند مصطلحي سينما الشعر وشعرية السينما، فتناول معنى الشعر منذ ارسطو والجاحظ وابن قدامة، والذين أكدوا على أن الشعر ينمو في عملية إبداعية داخلية، ومن هنا يأتي مصطلح سينما الشعر التي تعني الوصول بالسينما إلى حالة تعبيرية شبيهة بالشعر، ويستنتج بأن شعرية السينما قد تتحقق عن طريق سينما الشعر، لكنها ليست مرادفة لها، حيث أن شعرية السينما مرتبطة بالأسلوب، وفي غمار بحثه، يذكر لنا رؤية آن جيفرسون الذي يعتبر الشعر عنفا منظما مُقترَفا بحق الكلام العادي المتداول، أي إنه اجتراء على اللغة وإخراج الألفاظ من مسارها المُعتاد في التعامل اليومي إلى مسار خاص بالشعر. ثم ينتقل إلى رولان بارت الذي يقدم مفهومي التعيين، وهو المعنى الحرفي للكلمة، ومفهوم الدلالة وهو استعمال اللغة بطريقة مغايرة بين صورتين؛ الصورة الروائية التي تتشكل من خلال مرجعها النصي وتعانق مكوّناتها السردية، والصورة السينمائية التي تحمل الزمان والمكان بما يشتملان على عناصر متعددة، كالممثل والديكور والإضاءة، ويخرج بنتيجة مفادُها أن الخطاب السينمائي يتفوق دائما، لأنه يحتوي على فنون متعددة وممتزجة مع بعضها.
تناول أيضا موضوع الحكاية بين السرد والسينما، فتطرق إلى أمثلة شائعة من المقامات باعتبارها البدايات الأولى للقص، وكذلك حكايات ألف ليلة وليلة، ورأى بأن أية حكاية تُحكى فهي مداعبة للمخيلة، وتساعد على خلق نسيج الأحلام الليلية التي تكون أكثر عمقا وصدقا من الأحلام النهارية، وذلك لأن الليل يرتبط بالقصص، حتى أن بعض الثقافات البدائية القديمة تنبه على عقوبة تُصيب من يروي الحكايات في النهار، فالقص ليلي الزمن، والسينما أيضا كائن ليلي، يقضي الإنسان سهرته فيها، لأن الليل بالمعنى الرمزي فضاء للخداع والمراوغة. فتقدم لك سردا شبيها بالسحر.
تناول الكتاب أيضا صلة السينما بالمسرح الذي كان متفوقا عليها، وكيف أن ممثليه كانوا ينظرون إلى السينما يشكل فوقي، ولكن الأمور لم تصمد حينما انتصرت السينما على المسرح من حيث كثرة المشاهدة ومن نواح أخرى كالشهرة واكتساب المال والخروج من المحلية إلى العالمية، مما دفع الكثير من فناني المسرح أن يهجروه باتجاه السينما، التي حققت لهم الشهرة والمال أكثر من المسرح.
ولكن صالات العرض لم تستمر في جلوسها على القمة، فقد أدى ظهور التلفزيون إلى تقليص المشاهدين، باعتبار أنهم سيشاهدون برامج متنوعة بشكل مجاني وهم في بيوتهم، ولكنّه حرم الناس من الروح الاحتفالية والتأنق وروح السهرة التي توفرها صالة العرض.
ولم يقتصر الأمر على التلفزيون فقط فقد ظهر منافس آخر، وهو منصة "نيتفليكس" والتي نافست شركات الإنتاج المعروفة وأعادت قصة موت السينما إلى الواجهة، وذلك لأن جمهور هذه المنصة يشاهدون أي عرض فني، باختيارهم وفي بيوتهم أيضا.
منصة نتيفليكس وغيرها جعلت موت دور العرض واقعا، كما سحب البساط من شركات الإنتاج الكبرى التي جعلت من السينما واسطة للإثراء والأرباح الأسطورية.
لذلك كانت نتفليكس منافسا كشف عورة شركات الإنتاج التي تحتكر المهرجانات وتوقيت ظهور الأفلام. ومما زاد الطين بلّةً هو ظهور الهواتف الذكية، والتي أصبحت جزءا من شخصية الإنسان ،ترافقه في أي مكان وتستلب كل مشاعره واهتماماته، ومع تعدد أنواع المشاهدة فقد طرحت موضوع العزلة والوحدانية تقطع الروابط الاجتماعية، لاعتكاف الناس على رؤية ما يشاؤون من تطبيقات وفيرة وصور براقة وطرائف وحكايات وأخبار، كما أن الهواتف الذكية وبما تمتلك من قدرة في الذكاء الاصطناعي فقد ساهمت بخلق مهن أخرى، وأبرزت الكثير من المواهب المخفية، وكسرت احتكار وسائط الإعلام الرسمية في الحصول على المعلومة، ولكنها من زاوية أخرى خلقت القدرة على تفجير كثير من الطاقات غير المعروفة سابقا.
لقد كان "أسئلة السينما المعلقة" كتابا مفتوحا في مواضيعه، زاخرا بالمعلومات التي تهم الطلبة والنقاد والمهتمين بالسينما والمثقفين، وأعتقد بأنه إضافة نوعية للمكتبة العربية.