سوريا تُطبخ على نار هادئة
يبدو العالم متفائلا بمستقبل سوريا بعد غياب الأسد. تلك هي الصورة التي صرنا نراها غير أنها صورة مجتزأة وغير حقيقية. أما أن يكون العالم ينتظر ما الذي سيحدث قي دمشق بمعنى ما الذي سيفعله حكام سوريا الجدد، فذلك هو الآخر غير صحيح. أولئك الحكام ليسوا جديدين على العالم وقد سبق له وأن رأى أعمالهم الوحشية في حلب وإدلب يوم أستقر بهم الحال في إمارتهم الإسلامية التي تمتعت برعاية تركية وتمويل قطري.
في كل الأحوال ليس قلب العالم على سوريا التي هي قلب العالم العربي وعقله. لا يحضر في العقل السياسي الغربي بولص الرسول ولا زنوبيا ولا سمعان العمودي ولا أدونيس ولا وليد اخلاصي ولا سعدالله ونوس. سوريا هي مسألة مسلية ما دامت لم تعد تشكل خطرا على إسرائيل وهي إذ تنضم إلى العراق من جهة عدائها للدولة الوطنية وللقومية العربية فإنها تشكل جدارا آمنا لإسرائيل. هو جدار لم تبنه، بل وجدته جاهزا.
سوريا بعد أكثر من أسبوعين من التغيير تُطيخ على نار هادئة. هناك تنظيم إرهابي يحتاج إلى تبييض سيرته وهناك دول في حاجة إلى تنظيف تاريخ علاقتها بالإرهاب. وهناك قوة كبرى ربحت النزال غير أنها لا تزال غير مطمئنة على رهانها الذي فقد سكون محرجا لها بعض الشيء.
عن طريق هيئة تحرير الشام بقيادة أبو محمد الجولاني الموضوع اسمه على قوائم المطلوبين إرهابيا انتهت مشكلة لم يفكر فيها إلا القلة. ماذا لو سقط الأسد فجأة؟ ما هو البديل الجاهز؟
من الطبيعي أن تذهب الأنظار إلى الإئتلاف الوطني السوري الذي تم نقله إلى غرفة الإنعاش منذ سنوات. لذلك تمت لفلفة الموضوع بسرعة لتحل هيئة تحرير الشام "جبهة النصرة سابقا" لتكون هي البديل الجاهز.
"كان الأسد جثة تمشي على قدمين" حسب تعبير المبعوث الأميركي الأخير إلى دمشق. تلك الجثة لن تتمكن من البقاء طويلا حتى في الحماية الروسية التي غلب عليها الضجر والتململ والحماية الإيرانية التي صارت نوعا من الاحتلال. لذلك كان لزاما التحرك في وقت قياسي لحسم الأوضاع لصالح جهة مضمونة الولاء كما أنها تفعل ما يُراد منها من غير كثير نقاش في مسألتي العلمانية والدولة الوطنية الحديثة التي انصب عليهما نقاش المعارضين عبر عقد من الزمان.
لقد انتهى الحراك السياسي الشهبي يوم تحولت الثورة إلى حرب أهلية وانتهت الثورة يوم دخلت التنظيمات والجماعات الدينية المتشددة طرفا في الصراع فانزوت المعارضة أو تم ركنها جانبا وعاد المعارضون الكبار إلى مهنتهم في الكتابة الصحفية ولم يبق إلا المسلحون الذين احتضنتهم تركيا بموافقة روسية في إدلب.
تلك هي الخريطة السياسية قبل أن تقرر إسرائيل من خلال الولايات المتحدة أن الوقت قد حان لإنهاء حقبة الأسد، الرئيس الذي لم يكن سوى دمية تحركها الأجهزة الأمنية وبضمنها حزب البعث. وما كان ذلك القرار ليأخذ حيزه إلى التنفيذ لولا أن هناك قرار كان قد سبقه يقضي بإنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة وهو القرار الذي لم تصادق عليه الولايات المتحدة لولا الضغوط الإسرائيلية التي استندت في تأكيد واقعيتها على الهزيمة التي تعرضت عليها إيران في لبنان.
وهكذا يمكن اعتبار التغيير الذي شهدته سوريا شأنا إسرائيليا، كل السعداء به انما يكمن مصدر سعادتهم في رغبتهم في التخلص من مرحلة الأسدين، الأب والإبن وهي المرحلة التي استغرقت 45 سنة، عاشتها سوريا كما لو أنها ليست جزءا من العالم. فعلى الرغم من كفاءة المجتمع السوري في صنع شروط حياته المدنية فإن النظام كان متخلفا وغير قادر على استيعاب فكرة أن العالم قد تغير. كان نظاما مغلقا على شعارات ملفقة وخائفا من أية محاولة للتغيير. لذلك لم يتعامل بشار الأسد مع المطالب الشعبية البسيطة في عام 2011 بطريقة جادة لأنه كان يخشى أن تكون استجابته لتلك المطالب التي لم تكن لتكلفه ونظامه شيئا بداية للإعتراف بالشعب، كونه صانع مصيره.
اليوم تُطبخ سوريا على نار هادئة. فما كان لحكامها الجدد أن يصلوا إلى السلطة بقدراتهم الذاتية أو بتفويض شعبي، بل أنهم موجودون في دمشق لأن هناك صفقات عالمية كبرى قد عُقدت من أجل أن يكونوا هناك ومن أجل أن يكون وجودهم هناك جزءا من التغيير الذي يحتاجه الشرق الأوسط الجديد الذي لن تكون إيران حاضرة فيه.