سيرة المغترب في رواية 'لم يحدثْ أي شيء'

الكاتبُ التشيلي أنطونيو سكارميتا يتناول مصير المغتربين في الشتات اثر هروب المعارضين للحكم العسكري، لافتا في المقدمة إلى ما ألهمه فكرة النفي ليست وجهة نظر الآباء المؤدلجين بل بناءً على التحديات التي يعيشها جيلُ الأبناء وهم محاطون بقيم البلد الأم وسط العائلة فيما ينتظرهم شكل آخر من الحياة خارج سقف البيت.

يشغلُ هاجس تشكيل الهوية الإبداعية معظم الأدباء الذين يضيفُ منجزهم أفقاً جديداً  في تناول  المعطيات الواقعية والتاريخية والفكرية، وهذا يتطلبُ التشبعَ بالمعرفة وإدراك حركة التحولات التي ترخي بتأثيرها على نمط الأفكار السائدة وبالتالي فإن الأدب لا يتفاعلُ مع الواقع بطريقة آلية ولا تختزلُ وظيفته في توثيق الحقب التاريخية أو نقل الوقائع الراهنة إلى السياق الأدبي فحسب، بل إضافة إلى كل ما سبق ذكره فإنَّ العملُ الأدبي يستمدُ خصوصيته من قدرة الكاتب على تحديد اللحظة الفارقة التي تنتظمُ في تيارها التفاصيل بحيثُ تصبحُ  إطاراً جامعاً للمادة بأكملها.

هذه الآلية في الاختيار هي من متطلبات الكتابة الروائية بقطع النظر عن مرجعيتها سواء أكانت الواقع أو التاريخ أو السيرة الشخصية.

مواصفات مشتركة

والمتأملُ في روايات الكاتب التشيلي أنطونيو سكارميتا يلاحظُ استعادته لحدث مفصلي في تاريخ بلاده وهو الانقلاب على سليفادور الليندي هذا إضافة إلى أن طيف الشاعر بابلو نيرودا لا يغيبُ في طيات نصوصه ويتحول إلى محور لأحد أعماله الذي يحملُ إسم الشاعر، ولا تهمُ سكارميتا الإبانة عن الخلفية الايديولوجية في منجزه بقدر ما يريدُ التعبير عن التجربة الإنسانية بأبعادها المختلفة إذ ينزاح الروح الشعري في مفاصل روايته "ساعي بريد نيرودا" ويتجلى دور الشعر بوصفه فناً خالداً ومؤثراً على المذاق والسلوكيات في التواصل بين نيرودا وماريو إذ ينفتحُ وعي  الأخير على معجم الصياغات الشعرية ويفهم بأن الكلمات في فضاء الشعر تتضاعف دلالاتها.

إذن تدورُ حركة السرد بين ثيمات الحب والفن والثورة.والإيماءة إلى مصير الرئيس المنتخب في رواية "رقصة النصر" تأتي من خلال شخصية فيكتوريا وهي تفقدُ والدها في عهد بيينوشيه الذي شنَّ حملةً لا هوادة فيها ضد مناصري الليندي.

ويسلكُ مؤلف "عرس الشاعر" منحى ملحمياً في بناء هذا العمل حيثُ تتزاحمُ في مناخه شخصيات تضربُ بجذورها في صميم الواقع الاجتماعي، ويرصدُ سكارميتا في "أب سينمائي" رغبات متقاطعة لشخصياته الروائية إذ يسند  إلى جاك وظيفة رواية القصة وهو  يسرد مشاهداته في قرية "كونتولمو" وما يشكلُ ملامح هذه الحاضنة المكانية وما يعني غياب الأب بالنسبة إلى المتكلم إذ تزامنت عودته مع مغادرة والده لمكان المنشأ.إذن ثمة مواصفات مشتركة في منهج أنطونيو سكارميتا الروائي على مستوى التصميم والبرمجة السردية.

وهذا ما تراه بالوضوح في جُل أعماله منها ما نشر بعنوان "لم يحدث أي شيء"  والمُختَلَف في هذا العمل هو أن البيئة الحاضنة لأحداثه ليست تشيلي بل مدينة برلين الألمانية عليه يتناولُ الكاتبُ مصير المغتربين في الشتات اثر هروب المعارضين للحكم العسكري لافتاً في المقدمة إلى ما ألهمه بفكرة الرواية والغرض الذي يهدفُ إليه وهو أراد صياغة سردية معبرة عن خبرة المَنفى ليس من وجهة نظر الآباء المؤدلجين بل بناءً على التحديات التي يعيشها جيلُ الأبناء وهم محاطون بقيم البلد الأم وسط العائلة غير أنَّ شكلاً آخر من الحياة ينتظرهم خارج سقف البيت لذا يوكلُ إلى  الصبي لوتشو برواية معاناة المُغتربين ومايقومُ به هؤلاء من النشاطات وتعبئة الرأي العام العالمي ضد النظام الشمولي الجاثم على صدر تشيلي تستهلُ حركة السرد بالعودة إلى الحدث الأساسي وما يستتبعه من الإفراط في العنف والإقصاء. إذ تم اغتيال الليندي وقصف القصر الرئاسي بيومين قبل ذكرى عيد ميلاد الراوي.ويتسلسلُ السردُ بالضمير الأول كاشفاً عن شغف لوتيشو بالموسيقى فأهداه الأبُ غيتاراً لكن لم يتمكن من عزفه مطلقاً لأنَّه كان مقيماً في بيت العمة التي كانت ترزح تحت آلام المرض والحال هذه تقعُ على إشارة تفيدُ بأن والد لوتيشو كان ملاحقاً يتربص به الانقلابين لاقتياده إلى السجن كما طردوا العمة من المستشفى إلى هنا يصرفُ السردُ نحو متابعة وضعية مختلفة وذلك ما يخبرُ به كلامُ الراوي عن مراسلة الأب مع العمة إذ يطلبُ منها بيع الغيتار.

وطن بديل

قد يكون الانتقال من مكان إلى آخر أحد العوامل المؤثرة على إعادة النظر في  اختياراتنا وتبدل مذاقنا الأمر الذي يوحي به تحولُ اهتمام لوتيشو من الموسيقى إلى الكتابة إذ ما أن يستقرُ به المقام في برلين حتى تراوده الرغبةُ للكتابة وعندما يصفهُ المعلم بأنَّه موهوب يتخيلُ نفسه كاتباً ولا يوجدُ مايمنعهُ من تحقيق هذا الحلم إلا حاجز اللغة فهو لايتقنُ الكتابة بالألمانية لكن يعقدُ الأمل على صديقته "إيديث" لفك هذه العقدة.

وعلى غرار ما تراه في أعمال سكارميتا من دور الأنثى في إضاءة الجوانب المتوارية من المشهد الحياتي فإنَّ إيديث ليست فاتنة لوتيشو فحسب ولا ينتهي دورها في الجانب الحسي بل تخففُ الشعور بالوحشة لدى صديقها وتزوده بمفتاح الوطن البديل.ومن جانبه يرحلُ لوتيشو بأصدقائه نحو بلده تشيلي على الخريطة وهم يستغربون من وجود موقع  يكون رفيعاً إلى هذا الحد.

ولا يتجاهلُ الراوي الإلتفات إلى الأزمة المعيشية التي تعاني منها أسرته إذ مابرحَ والداه يتشاجران وصرحت الأمُ بأنها لم تعد تتحمل الضائقة وستعودُ إلى تشيلي ولا يتركُ كل ذلك بظلاله على مغامرات لوتيشو مع إيديث وحظوته بمتع مسروقة، والأهم هو المقارنة بين ما يتمتعُ به الأطفال من تغذية جيدة في ألمانيا وحرمان كثير من أبناء تشيلي إذ ينهشهم الجوع ولم يستمرْ الدعم الذي وفره لهم الليندي مع قيام الحركة الانقلابية.تتداخلُ فيما يرويه لوتيشو الاهتمامات الذاتية بالهموم العامة فيحكي عن مساعيه لعدم خسارة إيديث متأملاً في المواصفات التي تجذب النساء ويغطي السردُ بموازاة ذلك طبيعة علاقة المهجرين مع مواطني البلد المُستضيف والفعاليات التي يقومُ بها المعارضون للنظام الاستبدادي في تشيلي.ولعل المشترك الذي يكسر الجليد بين لوتيشو وأقرانه هو اللعبة واكتسب مزيداً من الدراية باللغة الألمانية حين يلعبُ كرة القدم في الفسحة فكان موقع تمركزه قلب الدفاع ولايني عن تردد عبارة "لم يحدث أي شيء" لصرف أنظار عن تعثر  المهاجم وبذلك أطلق عليه "لم يحدث أي شيء".

ومن الواضح أن أنطونيو سكارميتا قد اشتقَ مفردات معجمه الروائي من التشبيهات الخاصة به وتشكلُ كرة القدم مجالاً ينحتُ بفضله صورة تمثيلية لمواقف حياتية هذا إضافة إلى ما يستمدُ نصه من الفن التشيكلي والسينما والأمثال الشعبية والأغاني طاقات إيحائية وبذلك لا تكمنُ قيمة روايات سكارميتا فيما يفيضُ به من التشويق والمتعة فحسب، بل يستفيدُ أصحاب المشاريع الروائية من الأبعاد الجمالية للتصميم وتطويع التقنيات السردية. وقد لا نغالي في القول بأنَّ سكارميتا يضاهي همنغواي في بناء الجملة الحوارية الوامضة لاسيما في رواية "رقصة النصر" ويتسعُ نطاق السرد في رواية "لم يحدث أي شيء" للهاربين من الحكم العسكري في اليونان ويتواصلُ لوتيشو مع إبني كومديس ويخبرهُ هوميروس بكل الثقة بأن يوانيديس وبيينوتشه سيطاح بعرشهما، إذن لا ينكفيء لوتشو على بيئة واحدة بل ستتاحُ له فرصة تعلم الرقص مثل زوربا وشرب النبيذ في بيت صديقيه اليونانيين أكثر من ذلك يستفيدُ من مفهوم المنطق كما يشرحه له سقراط كومديس لإقامة العلاقة الجسدية مع صاحبة المتجر صوفيا.

ما يجدرُ بالذكر هو ما يقولهُ المؤلفُ عن تجربة الكتابة موضحاً بأنَّه من فئة الكتاب الذين يصوغون حكاياتهم بمشاعر خبرتهم الشخصية وقيضَ له التاريخ معايشة أحداث كبرى.