سيميائية العنوان في 'للمفتاح وجوه عدة'

المتأمل في عنوان رواية اللقاص والروائي مهدي علي ازبين يجد أنه يفجر دلالات سيميائية كامنة في لا وعي المتلقي، من ان المشاكل أقفال في هذه الحياة وتحتاج مفاتيح لفتح مغاليقها، الاشكال في من يمنح هذه المفاتيح وهي في خزائن والسؤال اين هي ومن هم سدنتها.

"كما ترى سيدي احيانا يضطر الانسان لسلوك غير مرغوب فيها او مرفوض لكنه يجد نفسه يمارس تحت ضغط خارجي هو يامل حياة يحترم فيها كيانه لكن تجنح به الظروف والقوانين على غير ما يشتهي"

"ما قيمة أن نكتب؟ ما لم ننتصر لمواطن النبل والجمال فينا، وتهبّ توليفة ما تمتزج به دماؤنا من انطباعات وأفكار وأحاسيس، ضدا على ما يسوّق عن فخفخة كمّا مهولا من المفاهيم الزائفة لتناطح المنظومة الأخلاقية التي قد تقلّص فينا ــ حدّ التلاشي ــ أقنعة البهيمية وشهوة الفتك وسلطة الأنانية لذا تبقى الكلمة مهما بسقت و تسامت أقصر قامة عن أن تحتوي وجع الفرد باعتباره وجعنا جميعا وبدون منازع ".

لم يعد العنوان مجرد عابر هامشي بل هو علامة، إشارة تواصلية له وجود مادي يتمثل في صياغته ونحته من مفردات لغة الكاتب أو لغة الكتاب، وقد حققت البنية اللغوية/الصوتية للعنوان خروجا من الواقع المادي البائس .إذن هو محاولة فتح أفاق جديدة وأن العتبات النصية هي الوسيط في عملية التفاوض بين ضلعي عملية الإبداع المؤلف والقارئ، لذا وجب أن يكون هذا الوسيط لبقاً، حصيفاً، مدركاً، واعياً، مرناً حتى تنجح تلك العملية، لأن فشلها قد يحدث ضرراً جسيماً بنص جيد.

العنوان من أهم النصوص الموازية للنص إذ أنه أول ما يصافح بصر وسمع المتلقي، هو المفتاح الذي ستُفتح به مغاليق النص "العنوان مفتاح أساسي يتسلح به المحلل للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها".

إن المتأمل في عنوان رواية "للمفاتيح وجوه عدة" يجد أنه يفجر دلالات سيميائية كامنة في لا وعي المتلقي، من ان المشاكل "اقفال" في هذه الحياة وتحتاج مفاتيح لفتح مغاليقها.. الاشكال في من يمنح هذه المفاتيح وهي في خزائن ..السؤال اين هي ومن هم سدنتها؟

الغلاف بشقيه البصري المتمثل في لوحة الغلاف واللغوي المتمثل في المفردات والجمل اللغوية ذو دلالة سيميائية، الوجه الحجري المحمر -المعطي وجهه للجميع-لا معالم فيه لأي شيء يهتدي به، ربما بدد معالمه ذلك الغضب لا لشيء سوى أنه آلاخر.

سيظل العنوان يمدنا بما نحتاجه قبل قراءة النص من رسم تصورات وتخييل ما هو قادم في غياهب النص، وسيرشدنا في مسالك النص ويحدد معالم الطريق، سيثبت أقدامنا لكنه سيترك أبصارنا وأسماعنا وعقولنا تجول في فضاءات لا نهائية من عالم ممتع وجميل، وسيبقى بعد القراءة يذكرنا بقطعة أدبية مؤثرة.

بأسلوب مجدد يتفنن الكاتب سعيا منه إلى تطوير النص الروائي في الشكل والمضمون، فيعمد الى كسر خطاطة الزمن والسرد معا دون أن يهمل بقية الأساليب في الكتابة الحديثة، أيضا أضاف خيالا على بعض الوقائع، لان النص الروائي الحداثي ما عاد يكتفي بتصوير الواقع، لأن الواقعية وحدها ما عادت تفي بحاجة المتلقي الذي يعيش في عالم عجيب أشبه بالخرافة، لذلك تحتم عليه أن يبحث عن وسائل جديدة في التبليغ تشد المتلقي وتقربه من عوالمه الإبداعية والفنية. هذا الاسلوب يأسر القارئ حتى النهاية التي تدعوه الرواية للاجتهاد من أجل فك رموزها وطلاسمها.

في روايته يضعنا الكاتب مهدي علي زبين، رأسا، في أقصى التخوم وأقساها، ليس لأن الذي وقع (أو يقع) لا يمكن تفاديه وحسب، وإنما لأن ما قد يقع، استقبالا، وحسَب منطوق العنوان ومفهومه، وباعتبار الـ" مفاتيح" عادة ما تفتح كوى للآمال، لكنها في زمن الفساد والمحسوبية امالنا واحلامنا نحن الفقراء قد منيتْ بالإجهاض، ماضيا وحاضرا واستقبالا، والواقع أن الكاتب لا بكنّي هكذا بل يفضح الخلل بصريح العبارة، وبأسى لما آل إليه حالُ واقعنا الذي أوغل في نفق بلا منافذ.

اختار الكاتب شخصية الضابط اللامسمى، وضمن مجريات الرواية ان تكون عينة دالة وضاجة بالأسى، تلتقي مع باقي الشخوص في كونها جميعا "مخلوقات ضعيفة تحترق في عراء الحياة، متحدية شرطها القاسي" بانتظار ان تمني النفس في يوما ما ان تجد الماستر كي لتنفتح لها طرق الحياة المعقدة.الرواية هي رسالة إدانة ضد همجية الحروب القذرة الجنونية التي أذلت الإنسان.

الرواية تحكي موضوع عندما تغلق المنافذ ويتخلى عنك شريكك "النظام" فتلجأ إلى المنافي.. الشخصية التي دفعتها إليها قسوة الأوضاع، حين طوى وطنه في حقائب وانطلق ذات سانحة في رحلة سبرت غور السهول والاهوار والجبال للوصول الى الحل.. في ظل نظام حكم صارم وغير متساهل هذه السوداوية سردها كاتبها بأسلوب من الإدهاش والمباغتة والمُفارقة الحابسة للأنفاس نتيجة الوضوح الذي قد يكون مربكاً ومراوغاً وحتى صادماً.

رصد القاص والروائي مهدي علي زبين في روايته "للمفاتيح وجوه عدة" مشاهد ومفارقات ينسبها إلى شخصيات متخيّلة في مسعى لإسقاط الذي يبدو مرعباً في بعض تفاصيله وخفاياه، يستعين بالحكي ليكون ملاذاً آمناً، فيكشف لنا عن أحزانها وذكرياتها.

يلتقط الكاتب حالة الانشطار الذاتي التي تطال شخصياته وهي تعكس خيبة الأمل.

المتتبع لأعمال الكاتب مهدي علي زبين السردية، يجد أنه يعتمد كثيراً ضمير المتكلم المفرد، لسرد وقائع نصوصه السردية، وعندما يُعتمد ضمير المتكلم في العملية السردية فذلك مؤشرٌ أولاً على مشاركة السارد في أحداث النص، ومؤشر ثانياً على أن الرؤية السردية المهيمنة في العمل هي "الرؤية التشاركية" التي تتساوى فيها معرفة السارد بتفاصيل العوالم السردية مع بقية الشخصيات. لكن قد يكون استخدام ضمير المتكلم في هذا العمل وجل أعماله مرتبطاً من ناحية ثانية بسيرته الذاتية، إلا أن الجانب الذاتي، يحضر فيها بكيفية أو أخرى، وفي مقدمة ذلك كتابة تجربة المؤلِّف وجيله والتي أفضت إلى الانكفاء على الذات.

اقتباس

"دير اخر الاقفال لتفتح الابواب مشرعة لشفاء ولدي تحمل كلمة السر العظمة الصغيرة من ساق ولدها كي تنتهي رحلة الالام ويغدو ولدي سليما لايختلف عن اقرانه"....ص 36

أسلوب الكاتب في الرواية أسلوب متدفق، يمسك الراوي العليم خلاله بكل تفاصيل الحكاية. أما الشخصيات فتتنفس عبر رئة الراوي الذي ينقل للقارئ خلجاتها الدقيقة، متنقلاً بين المواقف والمشاهد بخطى محسوبة، ومقدماً وصفاً نفسانياً يحصي أنفاس شخصيات الرواية. و يقتصد في الحوار جاعلاً له دوراً ثانوياً خلال السرد. أما لغته فلغة رشيقة قادرة على نقل الأصوات بحرفية عالية.

نموذج "المطي"

"هو ذلك الحيوان الذي يحدّه البسطال من الأسفل والبيرية من الأعلى، ويقسمه النطاق إلى قسمين متساويين)) والـ 'ج. م. ح' بـ جحش مربوط حساوي"

رسم الشخصية الرئيسية في هذا العمل ممثّلة لذاتها، واغترابها لحاجة اضطرارية لمعالجة ابنه "المريض" بعد ان طفح الكيل وعجز السلطة عن التجاوب مع هموم المواطن، ولجوؤه اخيرا الى الفرار الى دول الجوار ثم إلى أوربا بحثا عن العلاج، وهنا تصبح المشكلة هي حياة الطفل تتقدم على حياة الوطن المستلب ولذلك أصبح انكفاؤه على الذات وعلى همومه الشخصية هو الواجب المقدس، دون تفكير في العواقب، بعد ان راحت نفسه تعيش الإحباط وفقدان الأمل في انصافه، فكانت نتيجة ذلك، اللجوء إلى المنفى الاختياري، هروباً من واقع متردٍ، ليضاف إليه إحباط من نوع آخر متمثلاً في الموت ربما والتيه والشتات.

اللغة الروائية في هذا العمل هي رصانتها وميلها إلى التقريرية، واعتماد العبارات والفِقَر القصيرة، تخللها التعبير عن اللسان الدارج،

تسترجع الرواية "الابن" براءة الطفولة وشقاءها وجمالياتها عبر تداعٍ حر، وبصيغة ذكريات مستعادة مؤثرة، لتكون متراسا ضد الأسى ومرارة الواقع, ويكون الغربة هو المكان الأكثر حضورا وبروزا في الرواية،

اقتباس

"يسترق النظرات من ثغرات الحوار نحو ساعات المشفى العاطلة يلحظ جهازه يتحدث بشيء من التسرع كانه يطارد الفكرة او يخاف ان تفلت من صياغتها صوتيا يقترح علي .. لو دخلت فيها راويا آخر ستضيف دفقا جديدا لانسيابية المتون وتزيد من مستوى التشويق" ص 58

الكاتب يضع لنا علامات تحذيرية نسير اليها لنكتشف خفايا قصصه المؤلمة .."فم المستحيل"، (مدجج بالأسلاك"، "يفقد الصبر وقاره"، "توجيهات حادة الحواف"، "أحبو بخطوات تزحف على البلاط"، "كف الحزن"، "حسرات وداد"، "رذاذ طيبتها"، "ازحزح النعاس"، "سرير هامد"، "أصباغ تلهث).. الخ، حيث يكشف السارد عن مدى براعة بعض الشخصيات في إدارة المتن الحكائي .وأمام قسوة النظام نجد هشاشة في دفاعاته وعلى سبيل المثال.. شخصية "أم اللبن" و"القيمر" في النهضة و"ساحة سعد" و"بائعة السمك" في العمارة، حيث تمكنت أن تهيئ عوامل ووسائل خلاص وهروب الضابط الكبير مع ولده، ليصل إلى بلد الأمان والسلام في النمسا.

ويكمل السرد الطفل بعد ان تعافى في النمسا ويذكر في بلد الكفر الرعاية الطبية الفائقة ومنحه الجنسية النمساوية وتعليمه في أرقى المدارس ليحرز أعلى مراتب المعرفة والثقافة ليتزوج من نمساوية، وقرر أن يستمر في العيش هناك مدى الحياة بعد أن يودع والده الذي عاد الى أرض الوطن وقاتل قوى الإرهاب ويصاب إصابة خطيرة تفقده حياته، وهنا يتضح لنا مدى تمسك العراقي بعراقيته ودفاعه عن وطنه وشعبه والتضحية بحياته طوعاً من أجل ذلك حينما تتوفر له القناعة بعدالة الحرب التي يخوضها.

اقتباس

"انتبه لضحكات ولدي يحتفون به يتداولونه بايديهم يداعبونه وهو يعاني بكركراته يحاورونه يلثغ بابتسامة متعبة تنطلق من عينيه ووجهه الوديع... يدعوننا للتوجه نحو الحافلة يساعدونني في حمل الصغير وحقيبة السفر اشغل مقعدا خلف المطي قبل ايام"  ص 95

سرد لنا الضابط تسجيلاً مفصلاً حول حياته وحياة ابنه وما تعرض له من مصاعب وعقبات ومخاطر من أجل شفائه، لتكون هذه الذكريات في عهدة "معز" الصحفي، ليصوغ منها رواية تحكي حركة المفاتيح في حياة فرد وشعب ومجتمع.

ايضا اعتمد الكاتب في سرد احداث الرواية السرد المتداخل، أو تشتيت الحكاية، وهذا يتطلب من القارئ استحضار البديهة للامساك بتلابيب النص الحكائي، ومتابعة تفاصيله. من خلال عمليات الاستباق ونوع من التقديم والتأخير في الوقائع، لكن بشكل واعٍ.

ايضا هناك إشارات واضحة للتقارب الاجتماعي في زمن الملكية في العراق ولااحد يشكك في ولائهم ويذكر الكاتب شريحة اليهود، حيث عاشوا وسط العراقيين من مختلف القوميات والأديان ألا يكفي أن يسمى زقاق فرب ضريح "الامام علي ع "باسمهم (عكد اليهودي).

وتمضي الرواية لتقشر جانباً من ملامح هذه الشخصية حين تعود لتشارك بحروب التحرير بصدق وامانة لتحرير الارض بعد يعاد الى وظيفته العسكرية.

وهكذا تغوص الحكاية عميقاً في تليين الحاضر وتطويعه، واكتشاف المخبوء في أعماقنا، ومواجهة مخاوف الغد والتحوط لها، ومحاولة فهم وتجاوز تلك الخسارات التي تنهش أحلام الجميع وتطلعاتهم. أبطال الرواية بعد ان كشفوا عن مآسيهم وخيباتهم وخساراتهم وآمالهم المعلقة، ظهر جيل جديد المتمثل بالطفل حين يكبر ويشتد عوده.

تتابع الرواية تفكيك هذا العالم المعقد من التفاصيل التي تختلط فيها العلاقات الإنسانية، بالأحداث السياسية والدينية والفكرية والاجتماعية، لتقدم شهادة روائية على مدينة نابضة بالحياة، تشتعل حولها الحروب والحرائق والفتن والاضطرابات، مدينة صبغ وجهها الكثير من الفرح، وذاقت في الوقت ذاته ما يكفي من الألم والمشقة والجحود.

ومن الصفحة الأولى وصولا إلى الغلاف الأخير، لم يخف الكاتب رغبته في الروي والحكي عن فضاءاته المتخيلة الممزوجة بروح الواقع، فتحدث عن الحكاية بوصفها سليلة الالم والفرح معا.

اقتباس

"تواصل مركبتنا جئيرها على الاسفلت الخانع يبوح جانبا الطريق المزدوج عن احداث تلوح بعض مجرياتها ببقايا عربات عسكرية محترقة ابدان سيارات نخرها الصدأ إطارات مهترئة تشح الصورة كلما توغلنا بحيرات تبخرت امواهها" ص 141

وختاما، أقول الرواية تلخص تجربة إنسانية عميقة ومحفوفة بالألم مع الغربة المكانية وما يتبعها بالضرورة من اغتراب نفسي ووجودي وتخلخل على مستوى الروح الانسانية في زمن نظام استبدادي لايهمه سوى ذاته.

الرواية اظهرت تلك القتامة، وذلك الكم الهائل من الظلم والكبت والرذيلة والألم والوجع والذل.وأن الرواية خاتلته ومضت وأن الهدف الأساسي من خلال كتابة عمله كان تحريك الآسن والراكد، وتعرية ورقة التوت عن فترة قبيحة من التاريخ الجمعي للشعب العراقي .

أقول ما الذي يمكن أن يفعله كاتب عاني الكثير في زمن الطاغية فانغمس يعبر عن وجدانه لكن بأسلوب السوداوية، والعوالم المأساوية.. ألا تستطيع السخرية والتهكم مثلاً، تبليغ ما تبلّغه كتابة الفاجعة والمأساة؟ وهل يمكن أن يكون كسر خطاطة السرد، وخرق قواعده الأصيلة، وتشتيت الحكاية مؤشراً إلى فوضى نفسية خصوصاً فيما يتعلق بخرق القواعد التقليدية للسرد، واعتماد ضمير المتكلم لسرد الوقائع، ثم التوسل بالأسلوب الرصين الأكثر ميلاً للتقريرية.إذن الرواية هي إضافة إلى المنجز السردي، واشتغال مهم على المعجم اللغوي، وقدراته التعبيرية.