شخصيّة المفردة في "أشجار لاهثة في العراء" 

المفردة تحت قلم الشاعر القدير ذات شخصيّة خاصة تستمدّ قوّتها من قوّة شخصيّته، وتؤثّر بحيويّة شخصيّته وفعّالية سيطرته.
القصيدة مجموعة من المفردات والفقرات تعبّر عن الأفكار والمعتقدات والسلوك للفرد أو المجتمع أو البيئة
فقدان إحدى خصائص القصيدة يؤدي إلى حدوث اضطراب وخلل في بنائها مما يجعلها غرضا يُرمى وتتعرض للانتقادات وتؤثر على رصيد الشاعر

بقلم: كريم عبدالله

المفردة هي النواة الأولى في تكوين نسيج القصيدة، تمتدّ أواصرها نحو مع ما يجاورها من مفردات أخرى، لتشكّل لنا نسيجاً محكماً، تنبعث من خلاله الأفكار والأحاسيس والمشاعر ويتدفق الخيال خصباً منتجاً يتراقص على أنغام موسيقاها، تولد زاهية ذات ألوان متعددة، تبعث في النفس المرهقة مزيداً من المتعة والجمال والنقاء، تثير حيرة القارىء بإخفاء مقاصدها حيناً ما بين الفقرات والسطور، وتنمّي الذائقة ولذّة القراءة المنتجة والشغف بها وثراء الأستمتاع، لها القدرة على التجلّي في روح الشاعر فيبعثها كرسائل حيّة متجددة، حيّة مثمرة، مثقلة بالهموم والأفكار والمسرّات، صوتها عال يحتلّ مساحة من ذائقة المتلقي، تجعله يفكّر ويؤوّل ويبحث عن ضالته في المتعة، عميقة صعبة تكتظّ بالمعاناة الكثيرة وسط سيل جارف من الكلمات المنمّقة الرشيقة، تغري بالقراءة وتستحثّ القارىء الجاد أن ينهل من منابعها الصافية، وتشجعه على الولوج الى عوالمها البعيدة، تعبّر عن معنى من خلال معني آخر، تتوارى جماليتها وراء جماليات أخرى .
القصيدة مجموعة من المفردات والفقرات تعبّر عن الأفكار والمعتقدات والسلوك للفرد أو المجتمع أو البيئة، والتي تعبّر عن شخصية الشاعر وما يعتريها من عواطف وانفعالات ومشاعر وآراء ومواقف يتّسم بها، وان فقدان إحدى خصائص القصيدة يؤدي إلى حدوث اضطراب وخلل في بنائها مما يجعلها غرضا يُرمى وتتعرض للانتقادات وتؤثر على رصيد الشاعر .
في هذا الديوان نجد المفردة والتي تتشكّل وتتعاضد مع باقي المفردات استخدمها الشاعر د. سعد ياسين يوسف كأقصى ما يمكن من أجل تفجير طاقات اللغة، فأستطاع أن :

 المفردة في هذا الديوان تعبّر عن شخصية الشاعر بما تمتلكه من ثقة بالنفس كونه شاعرا متمرّسا يجيد كتابة القصيدة النثرية بطريقة خلاّقة

1-    يتخلّي عن النزعة الشخصية: أي أن تكون هناك عملية فصل ما بين الشاعر والشعر أي الفصل بين الكلمة والقلب، عن طريق العواطف غير الشخصية المتأججة، والانصراف الى المخيّلة الناصعة، وان تكون قادرة على التعبير عن كل الأحوال الوجدانيّة التي يمكن أن يحسّ بها الإنسان، والتجرّد من الذاتيّة إلى النزعة البشريّة. 
2-    لنقرأ هذه المقاطع لبعض قصائده. في قصيدة "عشبة السماء" ..  قبل أن يختفي / تحت سماء البرق / أومأ إلى الجسور التي / أحنى ظهرها انتظار عتيق / وهي تتفقد كلّ يوم / سلال زهورها البيضاء / المحدّقة في شجرة السماء / على امتداد خيط الدخان / وكلّما آلت إلى الذبول / نفخت فيها من وردها / وأوحت إلى أنوارها / إذ استبدّ بها هاجس / الأفول ... 
وكذلك نرى هذا كما في هذا المقطع من قصيدته "تهجّد النسغ" .. الزهرة .... / تلك التي أنبتها / صلوات الملائكة / الذين تنزّلوا / ليودعوها بين الرفيف / والرفيف .../ أطلقت موسيقاها / وارتفعت إلى عنان السماء / مرسلة جذورها عميقا .. عميقاً / في الشرايين وغطّت / بألوانها، النهارات، الأغاني، الأمسيات  / منيرة بزيت روحها ../ ظلمة ممرات المعبد .

3-    التركيز والوعي بالشكل: ليس مهما خصوبة المواضيع التي يتناولها الشاعر بقدر المدى الذي يتناولها، فموضوعة الأشجار ظلّ الشاعر يدور في فلكها يهذّبها وينقّحها ويبعث فيها الروح، ويجيد استخدامها بطريقة إبداعية حتى قيل عنه بـ "شاعر الأشجار". ونجد ذلك متجلّيا كما في هذا المقطع من قصيدة "ارتقاء" .. منذ أن تجذّرتْ في الأرض / هذه الشجرة / وامتدّ للسماء طرف خضرتها / أومأت ليمامات حزنها / أن اكتسي بلونك الأبيض / تاركة لمن استظلّوا بها / ثمر المسرّة ... 
وكذلك في هذا المقطع من قصيدة "أشجار لاهثة في العَراء" ... وبلا ثياب، تنسلّ روحي / الغصون وتسّاقط / غصناً فوق غصن / فوق غصن / فوق غصّة .../ حتى تقطّعت أزرار السماء / وتدلّى ثديها / وتدافعت بحثاً عن نفسٍ من خضرة / لما تبقّى من شجرة الأنبياء.
4-    بعث الروح والسحر في اللغة: كل بيت في القصيدة يتحوّل الى طاقة وقوّة نغمية تزيد من تأثير المضمون، وكانت الأشكال الصوتية المؤلفة من إيقاعات متجانسة أو توافقات بين الحروف الساكنة والمتحركة تسحر الأذن برنينها الأخّاذ. ونلاحظ هذا كما في هذا المقطع من قصيدة "المتصوّف": .. ذلك الذي يتضرّع / إلى النّصل أن يوغل أكثر، فأكثر / ليس غواية في الألم / ولا في خرق لمألوف دهشته / وهو يحدّق بالنور منبهرا / بألف جناح / لملكوت الأفق الأعلى / غير أنّ جُلّ مبتغاه / أن يخترق النّصل الحُجُبَ / ليحلّ ../ بفضاءات الفردوس المفقود. 
وكذلك كما في هذا المقطع من قصيدة "أفقٌ أعمى" تشتهيكِ قصائدي / إيقاعاً سرّياً ../ وثيمة لا يدركها الرواة / ولا الزّجّالون / ولا عازفو النايات / عند المغيب / حينما تمنحهم / الشمس آخر إسرارها . 

أطلقت موسيقاها / وارتفعت إلى عنان السماء
جُلّ مبتغاه أن يخترق النّصل الحُجُبَ 

5-    استخدام ذكي في تأجيج الخيال الخلاّق: هي محاولة الإفلات من الواقع والخروج من أسره، وتخليص الواقع من واقعيته بالحلم أو اللغة القادمة مما وراء الحلم. ونجد ذلك كما في هذا المقطع من قصيدة "عيون الصّبّار" .. من أنين مفجوع / لاهثاً يصل العرش / جذوره أحلام ناعمة .../ قلوب، غادرها النبض / تتلو آياتك .../ تحت ركام النزوات / تستمطرك الرحمة / والرحمة شجرة / ما عادت تورق في الأرض / لتظلّل ... / هذا الطوفان. 
وكذلك كما في هذا المقطع من قصيدة "ليس مجرّد خيال" .. مَنْ قال: / إنّ ما مرّ / مِنْ زمن تآكلت أقدامه / على جمر أحزاننا / كان حقيقة؟ .../ أغمضي عينيك فقط / وتأمّليها .../ تلك السنين التي تسرّبت / كالماء ... / من بين يديك أين مسرّاتها / وكم من الحزن اختزنت / وأودعت فينا / لتتلاشى تاركة / جراحاتها، ندوبها / عميقا عميقا .
6-    لقد كان حريصا على التفكيك والتشكيل: إنّ المخيلة الإبداعية تفكك العالم وتعيد بناءه وتنظيمه وخلقه على شكل عالم جديد وبقوانين تنبعث من أعماق الذات الإنسانية، أي بناء عالم غير واقعي بسبب الحاجة للهروب من الواقع الضيّق عكس ما موجود من نسخ للواقع كما هو وبما يشبه التصوير الفوتوغرافي. ونجد ذلك كما في هذا المقطع من قصيدة "تذاكر" .. الليلة / التي أوشكتْ / أن تفتح لنا خزانة مفاتنها / أضاعت مفاتيح الغناء / ورمتنا بإنتهاكات الظنون / مِن بعدما ألفت السنابل / انحناءة عودها على يد المناجل التي / قرأت جيدا تواريخ لهفتنا فأوغلت في الرقاب / أيّ حدٍّ تبلغ الساعة مئذنة الترقب / كي ينطق الصخر / بماء صورتك التي / أتعبتها الرمال. 
وأيضا كما في هذا المقطع من قصيدة "تساقط" .. أجنحتك / التي طالما / حلّقت بها عاليا / في فضاءات روحي / تساقط ريشها / وغادرتك ../ تاركة إياك / على متن غيمة من حجر / لأنها أدركت / سرّ الذي ... / أنت فيه الآن! .
7-    التحليق عاليا في عوالم اللاواقعية الحسّية: حيث كانت كل مفردة أو عبارة تتحدث عن الواقع المشوّه تمتلك كيفية حسّية، وهذه الأخيرة تتحدّ وتتآلف فيما بينها، وتنتج لنا تكوينات لا واقعيّة. ونجدها كما في هذا المقطع من قصيدة "اللا هو"َ .. سنواته .../ تجاوزت الكهوف / وجدران الأسى والحكايات / والتواريخ المسحوبة بالسُرفات / وما يزال .../ يشرب الدم الأول / يلوّن به وجه السماء التي / أثكلها بالشمس / وثقّبها بالطعنات.
وكذلك في هذا المقطع من قصيدة "أنت اصطفيت وقوفك هكذا" .. يا أيّها المصلوب / يا أيّها المحلّق / بلا وجوهٍ ..../ هم اصفوك ليقتلوك ؟؟/ لا ... / أنت اصطفيت وقوفك هكذا / فلكمْ أنشدتً حزناً، حسرةً / يا ليتنا .... / فنفوز والله ../ ها أنت فزتَ بكل مهابة كربلاء / ممزّقاً صمت الفراغ / ما بين ماءٍ وسماء .
إنّ المفردة تشبه العجينة يستطيع الشاعر الحقيقي تغيّرها وتشكيلها دائما، فهي تمتلك إيقاعا خاصا تتناغم حرفا وصوتا وإيقاعا من أجل إيصال المعنى إلى المتلقي والتأثير فيه، فلا بدّ أن تكون حبلى بالدلالات والرموز والإيحاء والغرابة وتثير الدهشة، ويعتمد ذلك على مقدرته في الخلق والإبداع وضبط الإيقاع الداخلي في القصيدة .
لقد استطاع الشاعر د. سعد ياسين يوسف أن يخرج من هذا الواقع وتخليصه من واقعيته وخلق لنا واقعا مغايرا أخر يشبه الحلم العميق، نتيجة المعالجة الموضوعية لهذا الواقع ولما يحمله من رؤيا واضحة نتيجة خزينه المعرفي وإجادة سرّ اللغة وتشكيلها كيفما يشاء لينتج لنا كلّ هذا الجمال. 
لقد كانت المفردة في هذا الديوان تعبّر عن شخصية الشاعر بما تمتلكه من ثقة بالنفس كونه شاعرا متمرّسا يجيد كتابة القصيدة النثرية بطريقة خلاّقة، وكذلك عبّرت عن شخصيته المرنة حيث وجدنا لغته الرهيفة تذر علينا حلاوتها وطراوتها، ولقد كانت شخصيته طموحة نتيجة المفردات العميقة التي تمتلك جمالا فنيّا، واستطاعت مفرداته أن تصوّر لنا مرحلة مهمة من مراحل العراق، وهذا يدلّ على شخصيته المقدّرة للمسؤلية اتجاه شعبه ووطنه، وكانت شخصيته فعّالة ومؤثّرة وهذا ما لمسناه من خلال قراءة الديوان الذي هزّ أعماقنا وجعلنا نتفاعل إيجابيا مع القصائد .