شنه سليم: للمسرح الجزائري دور مهم في تعبئة الجماهير 

الناقد الجزائري يطرح تساؤلات مهمة حول دور المسرح في الثورة الجزائرية.
كيف ساهم الإخراج المسرحي الجزائري المعاصر في تجسيد الوقائع التاريخية للثورة التحريرية والتأريخ لها؟
كيف استطاع المسرح إعادة إنتاج أحداث الثورة التحريرية وعرضها على المجتمع الجزائري من الناحيتين السياسية والثقافية؟

طرح الناقد الجزائري شنه سليم في بحثه الذي نال عنه درجة الدكتوراه وناقشه في الملتقى البحثي المسرحي لمهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة في دورته السابعة "الثورة التحريرية الجزائرية في الإخراج المسرحي المعاصر"، تساؤلات مهمة حول دور المسرح في الثورة الجزائرية، منها: كيف ساهم الإخراج المسرحي الجزائري المعاصر في تجسيد الوقائع التاريخية للثورة التحريرية والتأريخ لها؟ كيف استطاع المسرح إعادة إنتاج أحداث الثورة التحريرية وعرضها على المجتمع الجزائري من الناحيتين السياسية والثقافية؟ هل استطاع المسرح الجزائري المعاصر أن يرصد الوقائع التاريخية في كل جوانبها ومحاكاتها للأعمال النضالية على الركح وجعلها وثائق أرشيفية مرئية؟. حيث رأى أن توجه المسرح الثوري الجزائري إبان الحقبة الاستعمارية وبعد الاستقلال، لعب دورا في إيقاظ الضمائر وشحذ الهمم وتوعية الجماهير بضرورة الاستبسال في وجه الاستعمار، ومن ثمة إنعاش الذاكرة الشعبية والتاريخية للمجتمع الجزائري وربط جيل الأمس بجيل اليوم.
وقال شنه إن المسرح الجزائري حاول أن يرصد الواقع الاجتماعي وأن يفرض نفسه على الساحة الثقافية في الآونة الأخيرة حيث أصبح الفنان ينظر إلى الظواهر الاجتماعية بمنظار جديد استجابة لمتطلبات المرحلة ومعطياتها السياسية والاجتماعية. 

لعلّ باكورة الأعمال الفنية المجسدة لحياة الثورة كمسرحيات خمسينية الاستقلال التي نظمت على مسارح ربوع الوطن احتفاء بخمسينية الاستقلال استطاعت أن تحمل في طياتها دلالات سيميائية عبّرت عن الهوية والانتماء، ومزجت بين مختلف الفنون من شعر وموسيقى ودراما

وأكد أن علاقة الثورة بالمسرح عريقة وقديمة نمت وترعت منذ البدايات الأولى، وهيمن المسرح على الثورة وأصبحت الثورة إحدى اتجاهاته وألوانه الفنية، يَلقى إقبالا ومكانة بين جماليات الإبداع، فلم يستطع المسرح الاستغناء عن الأحداث الثورية فهي مصدر يستلهم مادته منه، ويقتبس من أحداثها وذلك لأن المستجدات والأحداث والتغييرات والحالة المزرية التي آلت إليها المجتمعات على أرض الواقع توحي بذلك، يمكن إعادتها وتشكيلها مسرحيا بقالب فكري لمعالجتها، وما خلَّفه المسرحيون الأوائل من مناهج وتنظير تعد بحق لبنة ساهمت في أهمية تنوير الطريق نحو المسرح الهادف، وأنَّ البدايات الأولى لجذور الثورة في المسرح كانت عند اكتمال هذا الأخير وظهوره في جوانبه الفكرية والاجتماعية والسياسية امتدت منذ الصرخة الأولى للإنسان الذي عانى القهر والظلم بأبشع صوره استعمارا واستبداد.
وشدد شنه على أن المسرح والثورة وجهان لعملة واحدة، لكليهما هدف واحد، فالمسرح سلاح ذو حدين فهو أداة من أدوات الثورة، فالمسرح دعا للثورة والثورة جعلته وسيلة لها، فالمسرح الثوري يطرح القضايا لتوصيلها إلى الجماهير لينمي بداخلهم مبادئ ومواقف فكرية، وسياسية.
وأضاف أن الرؤى الإخراجية تعددت بتعدد المدارس والمذاهب وتجددت الحركة المسرحية المعاصرة واتخذت لها مناهج جديدة، وقد أتاحت وسائل وطرق تكنولوجية زادت في قوة توصيل ما لم تستطع عناصر المسرح إيصاله، في فن المشاهدة البصرية من تقنيات الفن المسرحي وفرضت على المخرج أن يغير فكره في استخدامها وذلك لمتطلبات المشاهد لمواكبة التطور الإبداعي فتصبح عبارة عن وسيط، "وهكذا يجب أن يكون عليه النص المعاصر في علاقته بالتكنولوجيا التي يجب أن تكون وسيلة بصرية لغوية كجزء من أحداث ومعمارية النص البصري وهندسته".

المسرح سلاح ذو حدين
مسرحية ذكرى من الألزاس

فت شنه إلى أن المجتمع الجزائري لم يعرف الفسح الأدبية والثقافية وذلك للحصار القائم عليهم وكان همهم وشغلهم الشاغل كيف يجمعون لقمة العيش ويخرجون من الوضع القائم الذي فرضه مستعمر غاشم، فقد فشت فيهم الأمية والفقر واتخذ بعضهم الكتاتيب ملاذا وملجأ لتعلم اللغة العربية، وكان لهذه الكتاتيب أثر في التبليغ ونشر الوعي والحفاظ على التماسك والتعبير عن قضاياهم وأفكارهم، وعند قدوم الفرقة المسرحية لسليمان القرداحي 1908 خلقت في نفوسهم نوعا من الفرجة وكانت لهم متنفسا، بدأت فكرة إنشاء ثقافة مسرحية تتخذ منحنى أخر، فأسست جمعية ثقافية مسرحية في المدية والعاصمة على يد الأمير خالد سنة 1910 وقام بعرض مسرحيات لشكسبير. 
وكان "لقاء الأمير خالد حفيد الأمير عبدالقادر مع المسرحي والفنان جورج أبيض خلال مأدبة أقيمت في باريس سنة 1910 من أهم اللقاءات الباعثة والمكملة للفن المسرحي الجديد في الجزائر، حيث - وبحكم إيقاظ الهمم وتحريك النفوس المثبطة والكئيبة - رأى الأمير خالد أنه لا بد من تحقيق ذلك من خلال المسرح، فكان إلا أن طلب من جورج ابيض أن يبعث له بعض أعماله الفنية المسرحية الهادفة، وفعلا بعد سنة من هذا اللقاء بعث له "المرؤة والوفاء" لخليل اليازجي، و"الشهيد" لحافظ إبراهيم كروايات تحث على التمسك بالقيم العربية وتذكر بعزة وكرامة الشعوب العربية القديمة"، فقد تأثر بهذه الأعمال فئة الشباب وأصبحوا يبادرون الى تكوين فرق وجمعيات.
وأوضح أن الأمير خالد لم يتوان في تطوير العمل المسرحي وواصل مشواره بالبحث عن أعمال تخدم الحركة المسرحية التي كان من خلالها يبحث عن مصدر لرفع القضية الجزائرية في المحافل الدولية، ولعل ذلك نجده في رحلاته الى البلدان العربية "وواصل الأمير خالد نشاطه فذهب إلى تونس وأقنع بعض الفرق بتبادل الزيارات، حيث أثمر هذا الاتفاق زيارة جمعية الآداب التونسية للمرة الأولى بين 25 فبراير/شباط و15 مارس/آذار 1913 وقدمت مسرحية (السلطان صلاح الدين الأيوبي) في عدة مدن، ويؤكد أبو العيد دودو رؤية الجمهور لهذه المسرحية". 
وبدأ العمل المسرحي يعرف تقدما واتضحت معالمه وأهدافه، و"لعل النشأة الفعلية للمسرح الجزائري كانت إثر زيارات ووفود الفرق المسرحية من المشرق، وأول زيارة كانت فرقة سليمان القرداحي سنة 1908 والتي قامت بجولة في تونس والجزائر"، وكان توجه المسرح الجزائري واضحا فهو ردة فعل شعب بطبقاته السياسية والثقافية ورجال فكر، عبر فيها كل بأسلوبه ضد هيمنة استعمار شبت جذوره طيلة قرن وربع قرن، إذ يقول مصطفى كاتب في هذا الشأن: "لم يكن المسرح بالنسبة إلينا مجرد أداة تعبيرية ثقافية، بل سلاحا يقتضي مهارة صاحبه وحسن التحكم في أدواته... فخلق المسرح الجزائري الذي أعنا على رسم معالم الفن، ومن مهامه الأساسية إثبات الشخصية الوطنية ومناقشة الأشكال الاستعمارية ومحاربتها".

المسرح الثوري قد يتناول مسائل دقيقة
الإخراج المسرحي استطاع أن يوظف الرمزية التعبيرية 

وأكد شنه على أن للمسرح الجزائري دورا مهما في نشر التوعية وحركة التغيير، وتعبئة الجماهير بدءا في نشر المسيرة النضالية والمقاومة الثورية، وكان كل هذا تحت الظلم والقمع والقهر المطبق من طرف المستعمر لأنه أدرك خطورة وعظمة الايمان بالقضية السياسية، ويبقى هؤلاء مؤمنين بالحرية والاستقلال رغم كل ما يتعرضون إليه من الحرمان والمطاردة، واشتد الحصار عليه وعلى العمل السياسي وضاقت السبل على المسرح ورجالاته وذاق الأمرين، الشح المادي والقهر الاستعماري، ورغم ذلك بقي المسرح يؤدي دوره في توعية الشعب وبث الروح الجهادية والمقاومة وحب الوطن، وفي هذا الظرف كانت بوادر اندلاع الثورة التحريرية المجيدة تتجلى معالمها ويبزغ فجرها، وما هي إلا أشهر وسطعت شمسها.
وعند اندلاع الثورة وقف المسرحيون في البداية مبهورين أمام الطلقات الأولى العنيفة التي فاق صوتها صوت المسرح الذي كان محرضا وداعيا ورافضا ومناديا للحرية ومعانقا هموم وتطلعات الشعب الجزائري فيما سبق، وسار الشعب يصنع البطولات ويحقق النصر لنيل الحرية والسيادة والكرامة، وأصبح العمل المسرحي متوقفا لالتفاف الشعب الجزائري حول الثورة، ومن رجال المسرح من التحق بصفوف جبهة التحرير فأصبح ممثلا لا على خشبة المسرح بل على ساحة الوغى مقداما، فراح يقدم عروضا مسرحية تقاسم الأدوار مع أخوانه، يدوي بلسان مسرحي، حامل لبندقية بتشكيل حركي، يخط على خشبة بساطها وديكورها جبال وأشجار ومؤثراتها الصوتية صوت البندقية وتكبيرات هزت مقالع العدو، ولطالما ناشد بحمل الثورة وحلم بالحرية.
تبع شنه الجماليات الفنية لعروض خمسينية الاستقلال الجزائري، ودرس وحلل مسرحيات خمسينيات الاستقلال، حيث أكد أن المسرح  والثورة ثنائية جدلية استقطبت اهتمام المفكرين والباحثين على مختلف عصورهم ومذاهبهم، وبما أن المسرح الثوري الجزائري ليس بمنأى عن هذه المذاهب فقد قابلته نفس الظروف والمتمثلة في الثورة التحريرية، التي جعلته يؤثر ويتأثر.
وقال إن المتتبع للمسرح الثوري الجزائري يجد أنه لم يكن وليد الصدفة بل كان متأثرا بالمسارح الأخرى كالمسرح الأوربي، ويظهر ذلك من خلال مجريات الجماليات الفنية لعروض خمسينية الاستقلال. 
وقد وقع الاختيار على مجموعة من المسرحيات تطرقت للأعمال الثورية عبر المسارح الجهوية للوطن من بينها مسرحية "نجمة" للمسرح الوطني والتي كانت فاتحة لهذه الاحتفالية، ومسرحية "النار والنور" للمسرح الجهوي لأم البواقي، ومسرحية "دروب المجزرة" للمسرح الجهوي قالمة، ومسرحية "ذكرى من الألزاس" مسرح معسكر، ومسرحية الأرض والدم لمسرح تيزي وزو، كل هذه المسرحيات عكست جهود المخرجين المعاصرين الجزائريين.     
ورأى شنه أن للمسرح الحديث ما يميزه من طابع اجتماعي وذلك لتداخل عدد كبير من المذاهب المسرحية لندرك ونتوصل إلى مسرح معاصر باختلاف بلدانه ومجتمعاته، فالمسرح بأصالته لا يزال سلاحا فعالا من أجل التغيير مع إضفاء المتعة، وعلى الرغم من محاولة رواد المسرح الجزائري بعد المرحلة الكولونيالية الاتجاه بالبحث في التاريخ والتراث والموروث الجزائري، إلا أن المسرح بقي يحمل معطيات وأصولا غربية.

وقد أثبت المسرح الجزائري سابقا قدرته وفعاليته على خدمة ايديولوجيات المجتمع ومعالجة همومه، جمع بين المناهج الإخراجية المتعددة الواقعية، والرمزية، والملحمية، وأصبح المسرح المعاصر الجزائري في بنيته قادرا على العطاء وممارسة الفن المسرحي مع القدرة على الابداع الفكري، وقد اتضحت معالمه من حيث إيصال تلك العملية الإعلامية الاتصالية، وتفاعله مع الجمهور ومشاركته لإسقاط الجدار الوهمي، وله من القدرة على الابداع وبلورة النظريات الإخراجية في الأعمال المسرحية، وخاصة الذين درسوا بالضرورة الثورة التحريرية الجزائرية التي أمدتهم بمخزون وافر من الأحداث والشخصيات فجاءت بمثابة مصدر إلهام  ديكوره طبيعي.
وقال إن الإخراج المسرحي استطاع أن يوظف الرمزية التعبيرية وينتقل بجماليات المنظر المسرحي من الخطاب التقليدي، جاعلا من جسد الممثل هو الآخر أيقونة رمزية تعبيرية تسمو بأفكارها وحركاتها بأسلوب يتماشى مع واقعية الحدث، وبذلك عُدّ الإخراج المسرحي الثوري الجزائري فنا أصيلا مزج بين التراث والتاريخ والتزم الصدق في تسجيل ونقل الأحداث والواقع بأمانة.
ولعلّ باكورة الأعمال الفنية المجسدة لحياة الثورة كمسرحيات خمسينية الاستقلال التي نظمت على مسارح ربوع الوطن احتفاء بخمسينية الاستقلال استطاعت أن تحمل في طياتها دلالات سيميائية عبّرت عن الهوية والانتماء، ومزجت بين مختلف الفنون من شعر وموسيقى ودراما لتنقل حكاية شعب ناضل وقاوم زهاء أكثر من قرن في سبيل حريته واستقلاله، كما زخرت بالبنى الفنية المتنوعة لتخلق قنوات تواصل بين الثورة والمسرح، وبواسطتها استطاع المخرج الجزائري أن يتجاوز حدود اللغة الأدبية إلى لغة فنية انتشت بمتعة الشعور بلذة الكلمة والصورة معا. والمسرح الثوري قد يتناول مسائل دقيقة، وقضايا شائكة، تتطلب قراءة لأصول فلسفة المسرح، واستقراء وافيا لفكر المخرجين الأوائل، ناهيك عن الاختلاف بينهم، فما يكون راجحا عند فريق يكون مرجوحا عند فريق آخر، وقد يكون لكل فريق دليل يعضد وجهة نظره.