شوان عاصي مصطفى وعمليات تطهير شاملة لمجمل الجوانب الإنفعالية

شوان عاصي يظهر من خلال لوحته مبعثراً فيها راسماً فيها سبله إلى نفسه ومحركا فيها ثنائيات تبحث عما يكملها ويركز على المضمون الخفي غير الظاهر في منجزه الفني ويسعى إلى الإرتباط بعمليات التوقع أو الإستباق لما سيأتي.
شوان عاصي يدرك أهمية الابتعاد عن المألوف

إذا كانت "اللوحة هي المساحة التي يتعرف فيها الفنان على نفسه" حسب تعبير عمر حمدي مالفا ( 1951-2015) فهل هي لشوان عاصي (كركوك 1968) كذلك، يكفي أن نلقي نظرة سريعة على لوحته حتى نجده مبعثراً فيها راسماً فيها سبله إلى نفسه، راسماً فيها تلك الثنائيات التي تبحث عما يكملها، عما تناثر من ملامحها وعما تساقط، علها تستطيع أن تجمعها وتلم شملها بإستراتجيات خاصة تنشط دوافعها وتفتح حاويات مشاعرها لتتدفق بقوة وغزارة حتى تغرق المشهد كله، غير آبهة بالمخاوف والحالات الإنفعالية التي قد تظهر على السطح والتي مع مرور الزمن قد ينخر المشهد ذاته، فلا بد من الإهتمام البالغ بها قبل أن يحدث فيها تطورات قد لا تستطيع الإحاطة بها لاحقاً.
 فالبيانات الخاصة التي قد لا تتضح من المشاهدة الأولى، لا بد من ممارسة أكثر من مشاهدة واحدة حتى يبدأ الغموض فيها بالإتضاح رويداً رويداً وقد يصل إلى حد التلاشي تبعاً لعدد المشاهدات.
 أقول تلك البيانات الخاصة التي يسعى عاصي إلى توفيرها وإن بجرعات منقطة ومقطرة هي من الأمور التي ستتردد أصداءها دون أن يفقد المشهد جماليته، ستتردد في خطوات متلاصقة وفي تنوع جريء حتى تحافظ على مستواها المرتفع السار من الإستثارة، فالطبقة الأكثر تركيباً والأكثر غموضاً من المشهد هو الذي ينقذه من الملل الممجوج، ويرفع من قيمتها وبالتالي يزيد من جمالها، ورغم أن المسألة هنا إحتمالية، وأن العلاقة بين المشهد والأذواق هي علاقة تتوجب النظر إلى داخل كل مستوى من مستوياتها، و إلى كل عامل من عواملها (العمر ، الثقافة، الإنتماء الإجتماعي، الإقتصاد، .... إلخ) و حينها يمكن فهم تلك العلاقة وتبايناتها، و فهم تزايد تداخلاتها وما تتركها من أثر حين يعزز تصوراتها المطروحة بتقدير الإحتمالات التي تتوالد والتي تحتاج بدورها إلى قدرة عالية في الرؤية تمكنها أن تخدم عوامل بقائها وإستمرارها في المشهد نفسه.

 وهذا يرفع من أهمية تكوين العلاقة بين المتلقي/المتذوق والعمل الفني، والتي ترفع من منسوب التخيّيل والكشف لدى الأول كما تزيد من الخصائص الفراسية والتعبيرية لديه، والتي سترفع من درجة الثقة بينهما وبالتالي ستنشط من حالات المتعة لديه، وتجمهرها حتى تصل بها إلى حالة من التوحد، حينها سيظهر المشهد أكثر جمالاً وأكثر حياة.
شوان عاصي وكشكل من أشكال التركيز على المضمون الخفي غير الظاهر في منجزه الفني وموازاة مع التركيز على الطريقة التي من خلالها أبدع هذا المنجز يسعى إلى الإرتباط بعمليات التوقع أو الإستباق لما سيأتي، وقد يظهر في مواجهته أكثر من منحى بعضها ضمني كامن وبعضها واضح وصريح، و عليه أن يعتمد على إحداها، وستكون من الأولى حتما، من الضمني الكامن الذي سيجعله متعاطفاً معها وإن كان فهمه لها مغايراً، فهو يركز على ضرورة فهم تجربته الجمالية.
 ولهذا يركز على نحو أكثر على تلك الإستجابات السلوكية التي تخلقها هذه التجربة في المتلقي على نحو عام، و في ضوء ذلك يمكننا القول أن عاصي قد يخلق شرخاً في ذائقة متلقيه، أو لنقل إنقساماً فيها، ولكل طرف منها حريته في الإختيار، وليس لعاصي أن يستبعد أي منهما، عليه فقط أن أن يدع ذائقته الخاصة جانباً وهذا قد يثير الدهشة ذات الأثر الإيجابي والذي يقوم على منطق السبب والنتيجة، أو على التوازي السردي الذي يتم من خلال الزمن غير السائد غالباً أو بلغة أخرى على أساس من تداخل الأزمنة مع الإهتمام بما تطرحه من أسئلة لا بما تقدمه من إجابات، كما أن إنفعالات أو عمليات معرفية أخرى قد تدخل على الخط لتحريض عملية المشاهدة لدى المتلقي حتى تبدأ المعاني والدوافع والإهتمامات بالتوالد وهذه إحدى الحالات الخاصة في فهم المنتج وهو يتأرجح في دواخله بين الإنفعال والمعرفة مع عدم الإغفال لعملية الفردانية للمتلقي ذاته، وهذه أمور جديرة أخذها بالإعتبار.
 وقد تصل بنا إلى حالة من الفهم لبعض العلاقات المركبة الموجودة بين إنفعالاتنا التي قد تقربنا من مقولات المنتج، أو من التعاطف معها على الأقل، فالإشارة إلى ما حدث، أو إلى ما يمكن أن يحدث، أو إلى ما سيحدث هي عمليات تطهير شاملة لمجمل الجوانب الإنفعالية منها والمعرفية تميل في جوهرها إلى ربط المتلقي بالمنتج بكل أحلامه وآماله .
الشيء اللافت للإهتمام أن شوان عاصي يفهم سيكولوجية متلقيه وبأنهم يفضلون المثيرات البصرية التي تتسم بدرجة ما من جهد الإستثارة الذي سيشير بدوره إلى مجموعة دلائل ستميل به نحو الإستجابات الجمالية غير المألوفة، وكلما إرتفعت نسبة الجهد المشار إليه كلما إرتفعت درجة الإستجابات.
 ومن هنا تبرز أهمية عامل الجدة في رفع القدرة على إثارة الإهتمام و الإنتباه، التي تقوم في النهاية على أساس الحاجة إلى التواصل مع المتلقي، و هو أمر يحدث على نحو تدريجي، وبقدر ما تواجد متلقي خاص بقدر ما كانت التفسيرات مقنعة بالتغيرات الجمالية.
 وعاصي يمكن أن تأخذه تلك التغيرات في محتواها الجمالي، وهي ليست تنبؤات خاصة محددة حول التتابع الخاص بالمحتويات، بل تأكيدات على أن تلك التغيرات موفقة بدرجة كبيرة وتحقق قفزة للقيمة المعطاة لها، فما تفعله من خلال النظام المنتج للعمل المبدع ستنعكس حتماً في مستواها القيمي، خاصة إذا أدركنا أن العمل المبدع طارد للضغوط المناوئة له، وهذا يزيح عن كاهلها كل ما ما يمكن توقعه، فعاصي يدرك أهمية البعد عن المألوف، وكما الشعر يفقد كثيراً من خصائصه إذا تحول إلى نثر كذلك حال العمل الفني/اللوحة الذي لن يحقق أثره المنشود من وراء إبداعها ما لم تحافظ على لغتها الخاصة التي تكون في حال بناء دائم، والتي تجعل كل التوجهات البنائية أو التركيبية ممكنة فقط أن تمر بخبرة الأثر الإنفعالي الناتج عن عمليات التغيير والتجديد .