شوقي بعيون شوقي ضيف

مؤلف كتاب 'شوقي شاعر العصر الحديث' يرى ان ربة الشعر انتخبت شوقي، وأهدته إلى مصر سنة 1869 وأعدَّت له كل شيء ليكون شاعرا ممتازا.

في كتابه "شوقي شاعر العصر الحديث" رأى الناقد الدكتور شوقي ضيف (1910 – 2005) أن ربة الشعر انتخبت شوقي، وأهدته إلى مصر سنة 1869 وأعدَّت له كل شيء ليكون شاعرا ممتازا، ومازالت تحمله في حجرها، وترعاه بعنايتها، حتى تهيأت له شاعريته. وكان أول ما أعدت له ميراث دمه وأعراقه، فقد جاءت به من عنصر تركي وآخر شركسي، وعنصر يوناني وآخر عربي كردي، فتآزرت فيه هذه العناصر، وأخرجت منه شاعرا ممتازا، لعل مصر لم تظفر بمثله في عصورها المختلفة.

لقد اجتمعت هذه الأصول المختلفة ليخرج منها هذا الفرع المونق، وكلنا نعرف شهرة العرب واليونان قديما بالشعر والشاعرية، وإن ازدواج هذه الأصلين في شاعر ليؤذن أن ينال قمة الشعر، بل أن يبلغ فيه عنان السماء. وليس هذا كل ما أهدته أو هيأته ربة الشعر لشوقي، فقد هيأت له عينين حالمتين، أصابت أعصابهما بشيء من الاختلال، فهما لا ترتكزان ودائما تصعِّدان في السماء.

نشأ شوقي نشأة أرستقراطية، ليس فيها شيء من الديمقراطية، وما يتصل بالديمقراطية من حياة الشعب المصري، وسنراه يحاول أن يقترب أو يحاول الاقتراب من هذا الشعب، لكنه على كل حال نشأ في بُرج ذهبي، وربما كانت الحسنة الوحيدة لهذا البُرج أنه أتاح له أن يخلص للشعر ويفرغ له، ولا يشغل باله بشيء سواه.

وواضح أنه أخذ في تعلمه الطريق المدني، ولم يأخذ الطريق الديني، والتعليم المدني يستمد من أوروبا ومن كتب العلم والأدب فيها، وقد بدأ في عصر محمد علي، ثم خمد في عصر سعيد وعباس، ثم عاد إلى الازدهار في عهد إسماعيل.

ويرى شوقي ضيف أن الخديوي عباسا لو رضى عن خروج شوقي من القصر، وأسلمه إلى بطرس غالي (في الخارجية) أو إلى بشارة تقلا (في الأهرام) إذن لتغير وجه شعره، ولما عاش من سنة 1892 إلى سنة 1914 حبيس المدائح يتغنى بعباس وأعمال عباس في المواسم والأعياد.

ومن أجل ذلك قصَّر شوقي تقصيرا واضحا في مواقف شعبية كانت تستحق منه أن يتغنى في أثنائها بآلام الشعب، بل نجده أحيانا ينسى هذه الآلام التي كان يرتجف لها الشعب كما ترتجف أوراق الشجر أثناء العواصف.

شوقي يهجو عرابي

ولعل أوضح ما كان من ذلك موقفه من أحمد عرابي بعد عودته من منفاه، فقد استقبله بقصيدة، أقل ما يقال فيها إنها هجاء لقائد من قادة الشعب، ويكفي مطلعها الذي يقول فيه:

صَغَارٌ في الذهابِ وفي الإيابِ ** أهذا كلُّ شأْنِك يا عرابي

ويؤكد شوقي ضيف أن عرابي لم يذهب صاغرا ولا آب صاغرا، بل كان الشعب المصري، ولا يزال، يعده بطلا في الذهاب وفي الإياب. وأثناء حادثة دنشواي 1906 لم يستجب شوقي لكل ثورة الناس وما انطوى فيها من غضب وحقد وغيظ إلا بعد مرور عام على الحادث، فينظم مقطوعة – وليست قصيدة - بعنوان "ذكرى دنشواي" يقول في مطلعها:

يا دنشواي على رٌباك سلامُ **ذهبتْ بأُنسِ ربوعِكِ الأيامُ

ويظن شوقي ضيف أن أحمد شوقي نظمها ردًّا على من يلومونه لصمته حيث يجب الكلام. ولم تكن هذه المقطوعة تعبيرا عن عواطف متأججة في نفس شوقي، وإنما كانت إرضاءً للجمهور الذي يقرأ شوقي في الصحف. وكذلك الحال في وفاة صديقه مصطفى كامل، فشوقي لم يسارع إلى رثائه، لأن كامل كان قد قطع علاقته بالخديوي عباس، فتلكأ شوقي قليلا عن بكائه، ثم ثاب إلى صوابه، وكتب أجمل مراثيه فيه، والتي تبدأ بالبيت:

المَشْرِقانِ عليكَ يَنتحبانِ ** قاصيهما في مأْتَمٍ والدَّاني

وفيها البيت الشهير الذي يحمل فلسفة الحياة والموت:

دقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لَهُ ** إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثواني

ونلاحظ أن "التركيات" في ديوان شوقي في أثناء هذه الحقبة التي قضاها في القصر تحتلُّ مساحة ومدى أوسع مما تحتله مصر وحوادثها الجسام. وقد يرجع هذا في بعض أسبابه  إلى الأصل التركي الذي جرت دماؤه فيه. وهي حقبة تجاوزت عشرين عاما، لم يملك شوقي نفسه فيها. بل يملكه الأمير كما يملك أي شيء من ثروته. ولم يكن شوقي مُصلحًا، وإنما كان عبدًا لمجتمعه ولحياته الخارجية. ولم يكن سلوكه الفردي مماثلا لسلوكه الاجتماعي.

وعندما أُعلنت الحرب العظمى في سنة 1914 وكان الخديوي عباس غائبًا عن مصر بتركيا، أعلنت إنجلترا حمايتها على الوطن، وأبت على عباس أن يعود إليه، وأقامت مكانه السلطان حسين كامل، وأخذت تحول بين حاشية عباس وبين القصر، ومن بينهم شوقي الذي كان المحتلّ يعد حركاته ويراقب خطواته، وأوجسوا خيفة من تأثير شعره في نفوس المصريين، فأمروا بنفيه من البلاد، فاختار الأندلس مقامًا له. وذهب من بور سعيد في سفينة ألقت به وبأسرته على ساحل إسبانيا في برشلونة.

دورة شعرية جديدة

وبدأ الشاعر دورة جديدة من حياته، انتقل فيها إلى عالم النور حيث لا ترهقه قيود القصر وأغلاله ولا أفاعيه وسمومه. ولكنه أحس بالألم والحزن على فراق الوطن، وفي هذا حياة شعرية جديدة طرفاها: اللذة والألم، والنعيم والحرمان.

وظل الشاعر في منفاه في ضاحية "فلفديرا" في برشلونة، حتى أُعلنت الهدنة في سنة 1918، فأصبح من حقه أن يتجول في إسبانيا كيفما شاء، ويبكي أمجاد العرب هناك، فقال في سينيته الشهيرة:

اختلافُ النهارِ والليلِ يُنسي ** اذكُرا لي الصِّبَا وأيامَ أُنسي

وهي التي قال فيها بيته الشهير:

وطني  لو شُغِلتُ بالخلدِ عنه ** نازعتْني إليه في الخُلْدِ نفسي

وقد صوَّر شوقي في هذه القصيدة قصر الحمراء بغرناطة تصويرًا دقيقًا، حتى لكأننا نشاهده لدقة تصويره.

في الأندلس تخلص شوقي من العالم الخارجي، وأخذ يحس نفسه المحزونة ويصدر عنها في شعره.

وعندما عفت عنه السلطات – بعد أن وضعت الحرب أوزارها – سافر إلى "جنوا" بحرًا، ومنها ذهب إلى "البندقية" فركب أول باخرة تغادر أوروبا إلى مصر، وخرجت القاهرة لاستقباله، وبالغ أهلها في الحفاوة به، وكان لذلك تأثير كبير في نفسه.

ويوضح شوقي ضيف أن شوقي عاد ورأي دماء الشعب التي سفحها راضيا في الحركة الوطنية المباركة سنة 1919 ومن آماله وآلامه، وأيضا من آمال الشعوب العربية جميعا وآلامها، فأصبح يعيش مع شعبه والشعوب العربية، وكتب قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

أبا الهَوْل طال عليك العُصُرْ ** وبُلِّغت في الأرض أقْصى العُمُرْ

وبعد أن اتخذ كرمة جديدة (كرمة ابن هانئ) في الجيزة، بنى في الإسكندرية بيتًا (أمام شاطئ الإبراهيمية) سمَّاه "دُرّة الغوَّاص" وكان كثير الرحلة إليها في الصيف والشتاء. وكان يرحل إلى باريس لرؤية ولديه علي وحسين في أثناء تعلمهما هناك. كما كان يرحل إلى سوريا ولبنان.

لقد أصبح شوقي أملَ الشباب في مصر وسوريا وغيرهما، وأصبح شعره يردَّد في كل مكان ينطق أصحابه بالضاد، وظل يتربع عرش إمارة الشعر العربي بقية حياته، وحتى الآن لا يزال اسمه يدوِّي في آذان العرب كأنه تراتيل السَّحَر.

محمد عبدالوهاب في كرمة ابن هاني

ليس هذا فحسب، بل إنه اختار المغنِّي الذي كان يريده لشعره، وهو محمد عبدالوهاب الذي كان يتبعه كظله في كرمته بالجيزة، وفي رحلاته: في باريس وسوريا ولبنان، منذ عام 1924. لقد نجح شوقي في ذلك فجَرَت أغانيه لا على لسان عبدالوهاب وحده، بل أيضا على لسان كل مصري، في القصر وفي الكوخ، وشدا بها الرجال والنساء والأطفال.

بل إنه ارتاد مجالا آخر، لم يرتده أحد قبله وهو الروايات التمثيلية (المسرحيات الشعرية وغير الشعرية) التي دوَّت في سمع العالم العربي، ولم يكن للأدباء والنقاد - في سنتيه الأخيرتين من حياته – حديث سواها، وعلى ذلك لم يصبح شعره نغمة حلوة بجانب نغمة حلوة، بل أصبح شخوصًا تُرى بالعين المجردة على خشبة المسرح.

وفي رأي شوقي ضيف أن من يتصفح ديوانه "الشوقيات" سيجد الكثرة من قصائده كأنها قصور مشيدة، فهي بناء ضخم يشُدُّ بعضه بعضًا، على نحو ما يعبر عنه الموسيقيون عن "سيمفونية" خاصة بموسيقار شهير، بأنها عمارة باذخة، فقصائده نبوغٌ وإلهام وإحساس عبقري بالبناء الصوتي الشعري. وهذه الروعة في الموسيقى تقترن بحلاوة وعذوبة لا تُعرف في عصرنا لغير شوقي، تسعفه في ذلك ثقافة واسعة باللغة.

موسيقى شعر شوقي

إن موسيقى شعر شوقي هي آيته أو معجزته، وهي معجزة كان يخترق بها الصفوف، وتَعْنُو له بها الوجوه، ولم تعد هناك كلمة شاعرية أو لفظة موسيقية لم يعرفها شوقي، فقط أحاط علما بكل القوالب الصوتية. إلى جانب سعة الخيال وغنى التصوير. كما أنه كان يعرف كيف يجسم الصورة، وكيف يركبها، وكيف يحشد جزئياتها وعناصرها، فإذا هي تتحول إلى لوحة كبيرة، كهذه اللوحات التي نراها في معارض الرسامين، فلا نستطيع أن نخفي إعجابنا ولا سرورنا في أثناء رؤيتها.

إنه يقف في خشوع أمام قصر "أنس الوجود" مصورا بريشته ما بقي من أطلاله ورسومه فيقول:

رُبَّ نقشٍ كأنما نفضَ الصا ** نعُ منه اليدين بالأمسِ نفضا

ودهانٍ كلامعِ الزيتِ مرَّت ** أعصرٌ بالسِّراجِ والزيتِ وُضَّا

وخطوطٍ كأنها هُدْبُ ريمٍ ** حَسُنتْ صنعةً وطولا وعرضا

و (وُضَّا) بمعنى مشرق، والريم هي الغزال.

لقد نقل لنا شوقي في هذه القصيدة الصورة الحسية التي يلم بها نقلا دقيقا.

شوقي لم يعش لنفسه

ويضيف ضيف: لعلنا نلاحظ في شعر شوقي أنه دائما ينكر نفسه في شعره، فهو ليس من الشعراء الذاتيين الذين نقرأ عندهم حدة العواطف، وإنما هو شاعرٌ غيريٌّ،  أو شاعر غير ذاتي ولا شخصي، فهو لم يعش لنفسه، وإنما عاش لغيره، فقد كان يحلم بالعالم من حوله وأحداثه وحقائقه، وليس معنى ذلك أننا نجرِّده من عواطفه أو من شخصيته، ولكننا نعني أن عواطف شوقي العامة تتغلب على عواطفه الخاصة، ومع ذلك فهناك عواطف خاصة في شعره نحو أسرته وأبنائه وأحفاده على سبيل المثال. يقول عن أبيه:

وتمشينا يدي في يدِه ** من رآنا قال عنا: أخوين

وإني لأقرأ قصيدته الخالدة "النيل" التي تغنيها أم كلثوم، فيشدو بها الشيوخ والأطفال في مصر، وأشعر أنه من واجب كل مصري أن يكتبها ويعلقها في غرفة استقباله وفي ذاكرته وفاء لهذا الشاعر الذي أوتي من علمه بعمود الشعر العربي وصياغاته وتآليفه ما لم يؤته شاعر منذ البحتري.

لقد اتجه شوقي مع أدباء السياسة يقطِّر للشعب عواطفه الوطنية، ومدَّ صوته بالغناء والشدو، فأصبح أقوى صوت في الوادي وأجهره، وأفخمه وأحلاه، لا لشيء إلا لقوة فنه، وروعة شعره. ومشاعره في شعره الوطني مستخلصة من بلده وأنباء بلده، كما يستخلص العطر من الزهر.

مزمار مصر

لقد كان شوقي يحسُّ أنه مزمار مصر، بعثه الله إليها، لينفخ في روحها، مستمدا تارة من حاضرها، وتارة من ماضيها. ومن ذلك قوله في نشيد للنشء: "ولنجعل مصرَ هي الدنيا". وهي مزامير جديدة لا عهد للشعر العربي بها.

أما مسرحياته، فقد لاحظنا ثلاثة تيارات تجري فيها، وهي التيار الفكاهي، والتيار الأخلاقي، ثم التيار الغنائي، إذ كان يزواج فيها بين الغناء والتمثيل، فطُبعت بطوابع غنائية كاملة، سواء في كثرة القصائد والأناشيد التي تتخللها، أم في نظام الشعر وأوزانه وقوافيه، أم في لغتها موادها التصويرية. وهي تنقسم إلى قسمين: قسما مصريا ألفه مراعيا للعواطف الوطنية، ويشتمل على ثلاث من مآسيه، وهي: مصرع كليوباترا، وقمبيز، وعلي بك الكبير. وقسما عربيا ألفه مراعيا للعواطف العربية والإسلامية، ويشتمل على ثلاث أخرى، هي: مجنون ليلى، وعنترة، وأميرة الأندلس. ولكل محاسنها وعيوبها التمثيلية. وأرى أن ملهاة "الست هدى" تحفة ثمينة بين مسرحيات شوقي السبع.

أما أعماله الأخرى مثل: عذراء الهند، ولادياس أو آخر الفراعنة، وورقة الآس، فهي أعمال أدبية غير تامة، وكأن شوقي كان يمرِّن نفسه على عمل القصة.

أما عمله "أسواق الذهب" فيذهب فيه مذهب الزمخشري من حيث الوعظ والإرشاد. وهو نهاية من نهايات المقامات، بل المقامات – مثل مقامات الحريري – أخف منها روحا. لذا نقول إن شوقي أدّى بشعره ما لم يؤده بنثره، وكان له فيه القِدْحُ المُعَلَّى بين أبناء عصره.

إن شوقي لم يكن يفرغ لنفسه أثناء وظيفته في القصر، فكان شعره لأميره، وقلما نظم شيئا لنفسه، فنفسه تجري في أثر مولاه، وهو عنها لاه، لا يكاد يردها إليه إلا في الحين البعيد بعد الحين. ومن يدري؟ لعله لم يكن يريد لها أن ترتد من هذا الطريق الذهبي التي تهرول فيه.

ومع ذلك، فقد كان شوقي يسترد نفسه أحيانا قليلة، وكان يغني لها حينئذ بما فهمه أدق الفهم، في حياته الأرستقراطية المرهفة، وفي أوروبا أثناء دراسته من تلك الحضارة المادية التي تدفع دفعا إلى شيء من اللهو والخمر والمجون.

وظهر أثر ذلك في بعض شعره، قبل سفره إلى أوروبا، وبعد مجيئه، ومن نماذجه:

حفَّ كأسَها الحببُ ** فهي فضةٌ ذهبُ

وقصيدته:

رمضانُ ولّى، هاتِها يا ساقي ** مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ

وطبيعي أن يغني شوقي لنفسه مثل هذين الصوتين، فقد كانت حياته مترفة، وتصادف أن تزوج سيدة ثرية، فأعانه ذلك كله على أن يعيش كما يريد، من حيث الترف والبذخ واللهو. ويكفي أن نقرأ في كتابه ابنه حسين "أبي شوقي" وصف داره التي اختطها في ضاحية المطرية ليكون  قريبا من قصر أميره (قصر القبة) وهي التي سمّاها "كرمة ابن هانئ"ن ونطلع على ما بها من الأثاث ومئات الطيور الملونة واللوحات والغرف البهيجة، لنعرف كيف كان يعيش شوقي معيشة كلها لذة ومتاع.

كان شوقي في معيشته الخاصة، أو معيشته الداخلية، يأخذ غير قليل من الحرية، فلم يكن هناك القصر، ولم يكن هناك خيط سيده الذي يشد لسانه، ولم يكن هناك الجمهور الذي يطلع على سرائره، إنما كان شوقي وثراؤه وترفه وحفلاته وما يريد من خمر ولهو.

وشوقي في ذلك يخالف سمت الوقار الذي يصطنعه في القصر، وفي لقاء الناس وعلى واجهات الصحف، وهذا طبيعي في الفنانين، وفي الناس جميعا، أن تكون لهم شخصية فردية وشخصية اجتماعية، فليس ضروريا دائما أن يكون ما يواجه الفنان به الجمهور، هو عين ما يواجه به نفسه. وتتسع المسألة في الفنانين والشعراء، لأنهم من ناحية يصورون أنفسهم من حيث إنهم أفراد، ومن ناحية أخرى يصورون مجتمعهم، وما به من نزعات. وقد يسايرون هذا المجتمع ويخضعون، وقد يتمردون ويشذون عليه وهؤلاء هم المصلحون.

شوقي ليس مُصلحًا

لم يكن شوقي مُصلحا، وإنما كان عبدًا لمجتمعه وحياته الخارجية، فطبيعي أن لا يكون سلوكه الفردي مماثلا لسلوكه الاجتماعي، فهو في منزله وحياته الخاصة يشبع مزاجه وميوله، وهو في القصر والحياة الاجتماعية يشبع مزاج أميره وذوقه، ويحاول أن يكسب مزاج الجمهور وذوقه، فيؤلف له أغاني وأناشيد في تاريخه ونبله، أو في الخلافة والإسلام أو في مدائح الرسول كقصيدته التي قلد فيها نهج صاحب "البردة":

ريمٌ على القاعِ بين البانِ والعلمِ ** أحلَّ سفكَ دمي في الأشهر الحرمِ

والأخرى التي قلَّد فيها همزيته:

وُلِدَ الهدى فالكائناتُ ضياءُ ** وفمُ الزمانِ تبسّم وثناءُ

خصال شوقي وصفاته

وقد لاحظ د. محمد حسين هيكل أن شوقي له شخصيتان مختلفتان في شعره تمام الاختلاف (المؤمن الزاهد، ورجل الدنيا المستمتع).

واستطرد د. هيكل يفرق بين عناية شوقي بهاتين الناحيتين في الحياة، وعناية أبي نواس بهما، رغم أن هناك فرقا في معالجة كل من الشاعرين للناحيتين.

ويرى الدكتور شوقي ضيف أنه ليس هناك تعدد في شخصية أمير الشعراء، وإنما هي حياته الفردية، وما يتصل بها من لذة ومتاع وحرية، وحياته الاجتماعية وما يتصل بها من القصر والخديوي والجمهور ونزعاته، ولا خلاف بين الحياتين أو تخالف، وإنما هي في مجموعها خصال شوقي وصفاته.