صراعات مُتَقاطعة في رواية "الكهف"

جوزيه ساراماغو يأتي في طليعة من حاولوا كشف حملات التضليل في كواليس السياسة تحت يافطة الديموقراطية والتحضر.
الأسئلة تتوالدُ عما تُخبئهُ تضمينات أعمال سارماغو بمجرد وقوع النظر على العنوان وما يحملهُ من كثافة دلالية
عملية التفاعل مع النص الروائي تبدأُ بمجرد الشروع بقراءة الجملة الإفتتاحية التي توحي بما يدورُ عليه بندول السرد

يرى إمبرتو إيكو أنَّ الروائي يُمكنه قول أشياء يعجزُ الفيلسوف عن وصفها. بالطبع أنَّ هذا الرأي يشملُ صنفاً من الروائيين الذين يؤثِثون عالمهم الإبداعي بناءً على وجود رؤيةٍ نافذةٍ للواقع الإنساني وما يحفلُ به من صراعات مُحتدمة ومفارقات تلون أوجه الحياة. هؤلاءُ أكثر إدراكاً للهواجس التي ترافقنا طالما نحن في عداد الأحياء.
يُسائِلون في نصوصهم مفاهيم وجودية دون الإنجرار وراء القوالب التنظيرية. لَعلَّ ما تثيرهُ بعض النصوص الروائية من الأسئلة حول المُسلمات سواء كانت سياسية أو لاهوتية أو إجتماعية يفوقُ تأثيرها على ما تضمهُ المدونات الفلسفية نظراً لما يتصفُ به الأدبُ من القدرة على كسر الدائرة النخبوية والوصول إلى مستوى تداولي أوسع. لذا فإنَّ تطويعَ السرد لمناقشة الهموم الإنسانية وكشف العنجهية المتسترة وراء شعارات براقة أصبحَ غرضاً أساسياً في إشتغالات الروائيين. 
ويأتي جوزيه ساراماغو في طليعة من حاولوا كشف حملات التضليل في كواليس السياسة تحت يافطة الديموقراطية والتحضر، وإستغلال مخاوف الإنسان لتدجينه بإسم اللاهوت. ما يعني أن صاحب "العمى" يتشككُ من كل المواضعات المُسبقة فبالتالي تنتقِلُ هذه العدوى إلى القاريء الذي يُطالعُ له عالما مطبوعا بالقلق والتوتر والنزاعات في روايات جوزيه ساراماغو. 

Jose Saramago
تطويعَ السرد لمناقشة الهموم الإنسانية 

وقد تتوالدُ الأسئلة عما تُخبئهُ تضمينات أعماله بمجرد وقوع النظر على العنوان وما يحملهُ من كثافة دلالية، إذ من الملاحظ التنويع في صيغ عناوينه بين جملة ومفردة وألفاظ مُركبة ولا تخلو عتبات العنوان من إحالات ميثولوجية وفلسفية كما ترى ذلك في رواية "الكهف" الصادرة حديثاً من منشورات الجمل ترجمة صالح علماني. بالطبعِ يتشابكُ في هذا الملفوظِ إيحاءات دينية وفلسفية من جهة تذكرك بكهف إفلاطون، كما تُحيلك من جهة أخرى إلى موقع الكهف في المدونات الدينية.
دورة الحياة
تبدأُ عملية التفاعل مع النص الروائي بمجرد الشروع بقراءة الجملة الإفتتاحية التي  توحي لك بما يدورُ عليه بندول السرد، ومن المعلوم بأنَّ الإفتتاحيات تتباينُ من كاتب إلى آخر فيما يُفضل البعضُ الإستهلال بوضع المتلقي في بؤرة الحدثِ الأساسي الذي هو قوام النص بأكمله ثمة من يُوردُ عبارات لها دلالة زمنية في مُفْتَتَح النص أو يكون الإنطلاقُ بوصف المَكانِ، وتكمنُ أهمية البداية في امتداداتها وحفر مجرى النص في ذهن القاريء على حد تعبير ياسين النصير.
وما يستهلُ به جوزيه ساراماغو رواية "الكهف" حيثُ يقدمُ شخصيتين أساسيتين مشيراً إلى وظيفتهما (سيبريانو ألغور) صانع الخزف وصهره (مرسيال غاتشو) الذي يلبسُ زياً عسكرياً ويعملُ حارساً في المركز يُحدد مسارات السرد وآلية تعاقب حلقاته كما أنَّ بعض الأحداث التي يذكرُها الراوي لاحقاً مترابطة مع ما وردَ في الإستهلالية مثل الإشارة إلى الندبة المَحفورة على ظاهر اليد اليسرى لمرسيال غاشتو. إذ يتبينُ أنَّ هذا ليس إلا أثراً للإحتراق. 
بينما كان الفتى المراهق يعملُ بالإندفاع لمساعدة آلغور يسحبُ الحطبَ من المستودع يدفع به داخل الفرن فإذا بلسان اللهب يندفعُ ليحرق يد مرسيال ومن هنا يولدُ الشعور بالجفاء الذي تشعر أسرةُ غاتشو اتجاه ألغور وتصبحُ تلك الندبةُ أيضاً علامةً للحب القائم بين مرسيال ومارتا ابنة صانع الخزف أكثر من ذلك يُفهمُ من مناخ الرواية طبيعة العلاقة بين ما يسمى بالمركز والشخصيات الفاعلة. إذ أنَّ ما يصنعهُ سيبريانو ألغور من الأوانى والجفنات والزبدية يُصرفها في سوق المركز الذي يفصلهُ عن القرية التي يقيمُ بها صاحب الورشة مع ابنته وصهره ليس مسافةً فيزيائية فحسب إنما هناك حاجز حضاري بين بيئتين غير أنَّ ذلك لا يمنعُ التواصل بينهما طالما يمونُ صانع الخزف سوق المركز بنتاجاته كما أنَّ مرسيال يعملُ موظفاً في تلك المباني الشاهقة ويترقبُ صدور الأمرُ بتعيينه حارساً مُقيماً بالمركز ما يعني منحه شقة ليسكنُ فيها مع أسرته لكن سبيريانو الذي تعَّودَ على دورة حياته في القرية لا يقتنعُ بالإنتقال إلى مكان آخر والإبتعاد عن ورشته إلى أنَّ يُبلغه رئيس قسم المشتريات، بأنَّ الزبائنَ قد صرفوا عن بضاعته التي صارت لها البدائلُ في السوق. 
هنا يدركُ الرجل الستيني أنَّه في صراع مع زمن يسحبُ منه الدورَ ولا يخففُ عنه الشعور بالأسى سوى لقائه بأرملة بجواكين إستوديوسو في المقبرة عندما زار قبر زوجته يسمعُ من تلك المرأةِ ما يشي بأنَّ مهنته لا تزال تحظى بالتقدير، لذلك يعدُ إساورا بتوفير إبريق جديد بدلاً من المكسور. وستكونُ هذه المُحادثة المُقتضبة نواةً لنشوء قصة الحب بين الاثنين، وإنْ كان الكهل يتجاهل مشاعره في البداية غير حقيقة هذا الحب بصورته الحسية تتضحُ قبل إنتقال سبيريانو إلى المركز إذ يتركُ كلبه (لقية) لدى المرأة كأنَّ بذلك يريدُ الحفاظ على خيط للتواصل معها. 

Jose Saramago
إيحاءات دينية وفلسفية 

تجربة قصيرة
تنتقلُ القصةُ إلى مَفْصَلٍ جديد بموافقة سيبريانو للإقامة في المركز ومشاركة الحياة في هذا العالم مع ابنته وصهره وما دفعَ لصاحب الورشة للدخول إلى هذه التجربة هو إخفاق محاولاته لإيجاد بديل لبضاعته البائرة بصناعة الدمى وبيعها في متاجر المركز إذ يتظاهر بالتآلف مع بيئته الجديدة، وما يعمله هو الصعود والهبوط بالمصعد داخل المبنى والتجول بين الشقق وهناك مزيدُ من الطوابق فوق الطابق الرابع والثلاثين الذي يسكنون فيه، لكن إقامة سيبريانو لا تدوم أكثر من ثلاثة أسابيع وعندما يتبعُ صهره سراً ويطلعُ على المغارة التي يتناوبُ الحراسُ منهم مرسيال على مراقبتها إذ يجدُ هناك هياكل عظمية مقيدة إلى مقعد حجري لا يتحمل البقاء أكثر.
يوحي هذا المشهد بوجود تلك الهياكل في الطابق صفر - خمسة بما سيصير إليه مصيرُ الإنسان داخل المركز الذي يبدو كل شيءٍ فيه خرج من طوره الطبيعي، وهناك بدائل صناعية لظواهر طبيعية وأماكن سياحية. وتنتهي الرواية بعودة أفراد الأسرة إلى القرية حيث تنتظرهم إساورا. 
يشار إلى أن مؤلف "المنور" يستخدمُ سرداً شفافاً في روايته ويتدخلُ الراوي في فقرات معينة ملمحاً إلى إجراء تعديل في تشكيلة السردِ وموظفاً تقنية الإستباق المُتمثل في الأحلام، فضلاً عن ذلك يهمينُ صوت المؤلفِ على فضاء الرواية، عندما ينحو السردُ منحى فلسفياً ولاهوتياً، وتستشفُ أطياف مفاهيم ماركسية في النص، وتتوزعُ الجمل والعبارات ذات طابع فكرى وحكمي في أرجاء الرواية إضافة إلى الاهتمام بإستجلاء تأثير اللغة في حياة الإنسان.
ما بقي الإشارة إليه أنَّ الثيمة التي تتكيء عليها رواية "الكهف" هي الصراع بشقيه الداخلي والخارجي، والملفت في أفكار الشخصية الأساسية هو التمسك بالأمل –فمهما كانت الغيوم ملبدة سوداء فوق رؤوسنا، فإن السماء فوق الغيوم تظل زرقاء على الدوام، بخلاف ما كان عليه ساراماغو من التشاؤم.