صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. الأسباب والتداعيات

الميل نحو اليمين في أوروبا تغيير عميق ولن نشهد تراجعا سريعا له. المهاجرون في قلب هذا التغيير.

تواجه أوروبا ظروفاً وتحديات لم تواجه مثيلاً لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ثمة حرب عالمية بكل معنى الكلمة تُخاض في الميدان الأوكراني بين روسيا من جهة وبين منظومة "الناتو" الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية. صحيح أن الحرب تجري على أرض أوكرانيا بين جيشين روسي وأوكراني، إلا أن تداعيات تلك الحرب بات يشعر بها كل مواطن أوروبي، ولكن أبعد من أسعار الطاقة وموجة التضخم والغلاء، ثمة صدى سياسي لتلك الحرب، يُجسده صعود أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف بخطابه الإنعزالي النقيض للخطاب الوحدوي للاتحاد الأوروبي، إلى حد يدفع للاعتقاد بأننا على أبواب مرحلة يعاد فيها تشكيل هوية أوروبا.

يشكل صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في كلا من إيطاليا والمجر والسويد وفرنسا وغيرهم، رعباً للأنظمة المتواجدة، وللنظام الأوروبي العام، منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي في عام 1949 وبعده الاتحاد الأوروبي في عام 1991، واللذين جعلا أوروبا مدينة واحدة كبرى، وهو ما يتعارض مع مبادئ اليمين المتطرف التي لا تحب الاختلاط بالعرقيات الأخرى وتتفاخر بقوميتها وجنسها وعرقيتها.

هذا الزحف يمثل تهديداً كبيراً لا لمصير المصالح السياسية والاقتصادية في هذه الدول فقط، بل يمتد لجسد النظام العالمي بأكمله، حيث تتبنى هذه الأحزاب رؤى وتصورات استراتيجية سياسية واقتصادية قد تغير الى حد ما من توازن المصالح الذي عرفه العالم خلال عقود كاملة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي.

الطريقة التي يصعد بها اليمين في اوروبا بالتزامن مع صراعات دموية تجتاح العالم وجزء كبير منها مرتبط بالصراعات في الشرق الاوسط، تشبه كثيراً تلك المرحلة التي مر بها العالم في ثلاثينيات القرن الماضي التي مثلت حقبة سيئة جداً، شهدت إنهياراً إقتصادياً بأوروبا والولايات المتحدة إثر أزمة الكساد العالمي الكبير، وبروز النازية في المانيا في رد فعل على الانهيار الإقتصادي والأزمات المتتالية التي شهدتها الدولة الألمانية من جراء خضوعها للشروط المجحفة للحلفاء إثر الهزيمة التي لحقت بها في الحرب العالمية الاولى، ثم ظهور اليمين الفاشي في إيطاليا بقيادة (موسوليني) الذي تحالف مع (هتلر)، وتكللت كل تلك الصراعات لاحقاً بالحرب العالمية الثانية.

اليمين

لا يوجد اتفاق واضح على وضع تعريف جامع لليمين المتطرف على الرغم من الاتفاق حول خصائصها المشتركة وسماتها المتطرفة، ولكن هناك مقاربة تحظى بالقبول قدمها استاذ العلوم السياسية الهولندي مايندرت فينيما والتي تتناول هذه الاحزاب كنسق فكري موحد من خلال برنامجها المعادي للهجرة والمهاجرين، رغم الاختلافات في أولويات الشأن الداخلي لذا يُطلق عليها "أحزاب ضد الهجرة" إذ يصور المهاجرون على انهم مشكلة في أربع صور مختلفة: تهديد للهوية الإثنو-وطنية، وسبب رئيسي للبطالة والجريمة، إضافة لمظاهر اخرى من انعدام الامن الاجتماعي، ومستغِلون بسوء لما توفره دولة الرفاهية

إذاً العداء للأجانب، ورفض الأقليات، وفكرة التعددية الثقافية، والدفاع عن الهوية الإثنو-وطنية وعن التقاليد القومية التاريخية، والدعوة إلى الحد من الهجرة. جميعها تعد القاعدة المشتركة لأي برنامج سياسي لحزب يميني متطرف، بالإضافة إلى عناصر أخرى ترتبط بالداخل الأوروبي أهمها انتقاد سياسات الديمقراطية الإجتماعية لليسار وتشجيع الفردية لليمين، ورفض الإندماج الأوروبي، والدعوة لتقليص الضرائب، ولتشديد عقوبات الجرائم، ورفض سياسات المساواة للنساء، وسياسات حماية البيئة.

هنا تجد أحزاب اليسار ويمين الوسط، وهي الأحزاب التي تشكل الأغلبية في الحكومات الأوروبية صعوبة شديدة في تجاهل هذا الصعود اليميني فعلى الرغم من تفاوت النتائج التي أحرزها أقصى اليمين بين الوصول الى الحكم أو المشاركة في تشكيل الحكومات، أو على الأقل المنافسة الجدية والاقتراب من تحصيل السلطة، فإنها تمكنت بلا شك من أن تخلق نوعاً من الفوضى ضمن الأنظمة السياسية الأوروبية التي تميزت غالباً بالاستقرار، بحيث أصبح من الصعب على الأحزاب التقليدية ضمن اليمين أو اليسار أن تحقق أغلبية مستقرة كما كانت عليه العادة وأصبحت مُجبرة على التعاون مع الأحزاب اليمينية المتطرفة بعدما كان مجرد حصول حزب يميني على عدد محدود من المقاعد في البرلمان حدثاً يحرك القارة بأكملها.

اليسار

إن كلمة “اليسار” ظهرت كمصطلح سياسي عندما استعملت أول مرة في أحد برلمانات أوروبا، إشارة إلى النواب الذين كانوا يجلسون على يسار الرئيس، بينما سُمي الذين كانوا على يمينه بـ “اليمين”. وكان من المصادفة أن الذين كانوا يجلسون على يساره كانوا يمثلون بصورة عامة الطبقة العاملة والقوى الكادحة على العموم، في حين كان الذين يجلسون على يمينه يمثلون قوة الرأسمال والأغنياء وأصحاب الأموال على العموم أيضا. من هنا إذن بدأ مصطلح “اليسار” يأخذ مضموناً أو بعداً إيديولوجياً، فصارت إيديولوجيا اليسار تعبر بصورة أو بأخرى عن هذه الواقعة الاجتماعية. وعندما انتشرت الماركسية بين صفوف المثقفين وصفوف العمال، وكان هذا في أوروبا بطبيعة الحال، ارتبط اليسار نوعاً ما بالفلسفة الماركسية نفسها. وبما أن رجال الكنيسة عموما كانوا مع القوى القديمة أي مع القوى المالكة لزمام الأمور الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أي مع اليمين، فلقد صُنِفّت الكنيسة وبالتالي الدين بالمفهوم الأوروبي مع اليمين وربط به، بينما اعتبر اليسار ممثلاً لتلك الطبقة الكادحة وعلى العموم للفئات الاجتماعية المتحررة نوعا ماً من الهواجس الدينية.

هنا يجب أن نميز ما بين اليمين المتطرف واليمين الشعبوي، فاليمين المتطرف حركة نخبوية تطرح أفكار غالباً ما تكون إيديولوجية يصعب على المجتمع التكيف معها، أما اليمين الشعبوي فلا تهمه الإيديولوجيا بقدر ما يهمه مخاطبة مشاعر قسم كبير من المجتمع واجتذاب الفئات الموجودة على هوامشه. مثلاً ترامب ليس يمينياً متطرفاً، بل هو شعبوي، وتكوينه الشعبوي هو أقرب إلى الفئات اليمينية. والفرق بين اليمين التقليدي واليمين المتطرف أن الأول يسعى للحفاظ على التقاليد وحماية الأعراف داخل المجتمع، والثاني كذلك ولكن الاختلاف يكمن في أن الثاني يدعو للتدخل القسري واستخدام العنف للحفاظ على تلك التقاليد والأعراف.

الأسباب

ملف الهجرة: لا يرتبط صعود اليمين المتطرف بالأزمة السورية أو بالهجرة الاخيرة بل يعود لزمن أبعد من ذلك، فاستقلال الجزائر يعد سبباً رئيسياً في تشكيل أقصى اليمين الفرنسي وبالتالي انهاء الهدنة ما بين اليمين المعتدل واليمين المتطرف في فرنسا، مما أسهم لاحقاً في تشكيل حزب الجبهة الفرنسي.

هذا التدفق الكبير للمهاجرين من الشرق الأوسط وإفريقيا يعتبره اليمين خطراً على فرص العمل، وسطواً على مكتسبات الأوروبيين في الخدمات الاجتماعية والسكنية والصحية، والأخطر أنه يهدد هوية المجتمع الأوروبي وثقافته، هذه النقاط برع اليمين الأوروبي في صياغتها بخطاب تعبوي في الإنتخابات.

الإرهاب: الزيادة الكبيرة في أعداد اللاجئين شَرّعت الأبواب أمام هواجس مستقبلية أوروبية من تكوين جاليات شرق أوسطية وإفريقية كبيرة داخل حدود الإتحاد الأوروبي مما يغري باجتذاب مهاجرين بمعدلات أضخم، وجاء انتشار داعش ليثير مخاوف الراي العام الأوروبي حول مدى قدرة المجتمعات المفتوحة والحرة على حماية مواطنيها، وبالطبع لا ينفصل ذلك مع تصاعد مفهوم الإسلاموفوبيا وموجة العمليات الارهابية منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، والمخاوف من سرعة انتشار الدين الإسلامي في أوروبا، وتركيز اليمين على أن الإسلام والمسلمين هم التهديد الأساسي لقيم أوروبا الثقافية والقومية. ويعتمدون في ذلك على صعود تيار الإسلام السياسي والسلفي في أوروبا وربطه بموجة الإرهاب التي تجتاح أوروبا، وتخويف الشعوب الأوروبية من أن ديمقراطيتهم واسلوب حياتهم في خطر، وأن هوية أوروبا التاريخية وحدودها الجغرافية في خطر محدق من خلال الذوبان في دول وثقافات أخرى، وينتقدون الاتحاد الأوروبي الذي بات يستأثر بقرارات الدول الأوروبية.

البطالة: رسمياً في اوروبا 22 مليون عاطل عن العمل، يُضاف لهم صعوبات إقتصادية وسياسات تقشفية، ويأتي اللاجئون ليضيفوا أعباءً إقتصادية على الدول المضيفة لهم بسبب تكلفتهم في مجالات المرافق والتعليم والصحة وغيرها، وأمام فشل الأحزاب والتيارات السياسية التقليدية على تقديم الحلول أو البدائل الناجحة لتلك الإشكاليات، ساعد قوى اليمين المتطرف على سحب البساط من تحت أقدام هذه التيارات خصوصاً ذات التوجه اليساري أو الاشتراكي وأحزاب يمين الوسط، بمعنى آخر فإن إخفاق الأحزاب التقليدية دفع الناخبين الأوروبيين إلى التصويت العقابي لحساب اليمين المتطرف نتيجة لعدم الرضا عن سياسات اليمين واليسار ورفض الناخبين لبرامجهم أكثر من كونه قناعة ببرامج أقصى اليمين.

الإقتصاد المُنهك: الإقتصاد المتراجع للدول الأوروبية منذ بداية كورونا مروراً بالحرب الروسية الأوكرانية ومساندة الدول الأوروبية لأوكرانيا بكل ما أوتت من قوة سواء إقتصادية أو سياسية أو عسكرية ساهمت في تراجع الإقتصاد الأوروبي إلى حد غير مسبوق، حيث تشير المؤشرات الاقتصادية لمنطقة اليورو إلى الانكماش بنسبة 0.1% في الربع الثالث من عام 2022 وتراجع حاد في الربع الرابع، كما تجد الحكومات الأوروبية صعوبة بالغة في كبح جماح التضخم بسبب زيادة أسعار الطاقة والغذاء العالمية وذلك يرجع بسبب العقوبات الأوروبية والأميركية التي فرضت على روسيا وقطع روسيا إمدادات الغاز عن بعض الدول الأوروبية مما أدى إلى زيادة الأسعار بشكل كبير على المواطن الأوروبي، كل هذه المشاكل الاقتصادية كانت مادة خصبة للدعاية الإعلامية والخطابية لليمين المتطرف حتى حاز على ثقتهم.

السياسة الأوروبية الخارجية: تعارض الأحزاب اليمينية المتطرفة السياسات الخارجية للحكومات الأوروبية الحالية خاصة معاداتهم لروسيا ووصفها بأنها دولة معادية ومساعدتهم أوكرانيا ودعمها بالسلاح والأموال، لأنهم يرون أن هذا الدعم ليس ذا فائدة على الشعوب الأوروبية التي تعاني نقص في الطاقة وتردي الأوضاع الإقتصادية والمعيشية بسبب الحرب، فهم يرفعون شعار الوطن أولا، لذلك ليس من الغريب أن نجد المجر، وهي تحكمها الآن حكومة يمينية متطرفة، أن يخرج وزير خارجيتها ويقول إن المجر ترفض سياسة العقوبات على واردات النفط الروسي، لافتاً إلى أن واردات النفط الروسي تشكل 65% من احتياجات المجر، لذلك فأن اليمين المتطرف يهمه في المقام الأول المصلحة الوطنية ولا يهمه الحرب.

الشارع الأوروبي: ظهور توجه داخل الشارع الأوروبي رافض لسياسات اللجوء والهجرة التي تتبعها عدد من دول أوروبا، وهو الأمر الذي يتوافق مع برامج الأحزاب اليمينية المعادية للهجرة.

أسباب سياسية: ومن الأسباب التي أدت للصعود اليميني المتطرف في أوروبا هو انهيار الاتحاد السوفيتي، فمع نهاية الثمانينات، ومطلع التسعينات، نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك الكتلة الشرقية متمثلة في حلف وارسو وتأسيس الاتحاد الأوروبي نتيجة معاهدة ماستريخت 1992، أدى إلى أن هذه الدويلات التي ظهرت من انهيار الاتحاد السوفيتي بدأت تعود لأصولها العرقية، ما ساهم في ظهور النزعة القومية عند الكثير من الأوروبيين وانضمام مثل هذه الدول إلى الاتحاد الأوروبي فيما بعد.

أسباب أمنية: تصاعد وتيرة الإرهاب كان بمثابة طوق النجاة لأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا، حيث وجدت فيها ملجأ ومتنفساً لتقديم نفسها من جديد، ما زاد شعبيتها في الخمس سنوات الأخيرة، ما تجسد في صعود أسهمها في فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا وغيرها من دول أوروبا، ثم في الولايات المتحدة. تعرّضت أوروبا لأوّل عمليّة إرهابيّة في 11 مارس 2004، حين فجرت 4 قطارات في مدريد عاصمة إسبانيا، ما أدّى إلى مقتل 191 شخصًا، واتّهمت إسبانيا آنذاك تنظيم القاعدة بتنفيذ الهجوم. وشهدت العاصمة الفرنسية باريس هجمتين إرهابيّتين عام 2015 أدتا إلى مقتل 140 شخصا. كما أن بريطانيا لم تسلم أيضًا من الإرهاب، ففي عام 2015، طعن رجل ثلاثة أشخاص في قطار الأنفاق في لندن، وصنفت الشرطة هذه العملية على أنّها إرهابية، كما شهد قطار الأنفاق أيضًا 4 هجمات منسقة نفذها 4 انتحاريين عام 2005، ما أدى إلى مقتل 52 شخصًا. وضرب الإرهاب أيضًا الدّانمارك في 2015، حين أطلق رجل النّار في معرض لحرّية التّعبير في كوبنهاغن، أدّى إلى مقتل شخص وجرح ثلاثة عناصر من الشّرطة. ونالت ألمانيا حصّتها من الهجمات الإرهابية العام الجاري، الهجوم الأول نفّذه مهاجر أفغاني، طعن 5 أشخاص على متن قطار، أما الهجوم الثاني فتمثّل في تفجير مهاجر سوري نفسه في مدينة Ansbachما أدى إلى جرح 12 شخصًا. واستغل التيار اليميني الهجمات الإرهابية التي شهدتها فرنسا، في توجيه زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف فى فرنسا مارين لوبين أول ضربة للمسلمين فى فرنسا بدعوتها لحظر المنظمات الإسلامية وغلق المساجد المتشددة وطرد الأجانب الذين يدعون إلى الكراهية – على حد زعمها – وأيضا المهاجرين غير الشرعيين، كما دفعت هذه التفجيرات الأحزاب اليمينية المتطرفة في الدول الأوروبية الأخرى إلى الصعود. وجاء انضمام مئات المتطرفين إلى تنظيم داعش من مختلف الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والنمسا، وبلجيكا، والسويد، إلى القتال في سوريا، والعراق، صدمة كبيرة لدى هذه الدول، ما اعتبره كثيرون فشلاً ذريعاً لسياسات دمج المهاجرين داخل المجتمعات الأوروبية. وأدى ذلك لزيادة المخاوف عند الكثير من الأوروبيين على هويتهم الثقافية، وعاداتهم وتقاليدهم وعلى الجنس الأوروبي، وأيضًا الخوف من اختفاء دولة الرفاهية، ما أدى إلي صعود اليمين المتطرف وجعله يحصل على نسبة عالية في بعض الانتخابات التي أُجريت.

الديمقراطية في خطر

فيما عدا لحظات الأزمات الشديدة، تمتّع المواطن العادي في الديمقراطية الغربية، منذ اندلاع الثورة الصناعية، بمستوى معيشي عالي، كان المواطن العادي يتطلع إلى مال أكثر وحياة أطول وقضاء فترة أطول من حياته مرفَّهاً، لم يعد هذا سارياً اليوم، وخلال هذه الفترة من الركود الاقتصادي، كان على مواطني الديمقراطيات المتقدمة أيضاً أن يواجهوا تحديات تجاه هوياتهم القومية، فإثر عمليات التطهير العرقي والتهجير الجماعي التي جرت في النصف الأول من القرن العشرين، أصبحت معظم بلدان أوروبا متجانسة بدرجة عالية، وحتى حين بدأ استقطاب أعداد كبيرة من المهاجرين بعد إنهاء الاستعمار والطفرة الاقتصادية في الخمسينيات والستينيات، لم يشكل هذا النزوح تهديدًا حقيقيًا للهويات القومية، لأن معظم الحكومات الأوروبية قالت لمواطنيها إن من وصلوا حديثًا ليسوا سوى زوار سيعودون لأوطانهم بعد أن يحققوا مكاسبهم الاقتصادية قصيرة المدى.

ولكن هذا الوعد ما لبث أن فُضِح حين حصل ملايين المهاجرين على حق البقاء في البلدان الأوروبية، وبدأوا في المطالبة بحقوق المواطنة الكاملة، لم يتقبّل الكثير من الأوروبيين هذا الأمر، حتى بعد أن أصبح تعريف الانتماء لقومية أوروبية معيّنة أكثر شمولًا، أصرّ البعض على أن الألماني الحقيقي أو الطلياني أو السويدي.. إلخ هو فقط من شارك الألمان أو الطليان أو السويديين.. إلخ تاريخهم وهويتهم الإثنية، ولطالما نجح الشعبويون في استغلال هذه التوترات، متعهّدين بحماية المنتمين “الحقيقيين” للوطن من الأقليات، التي تتعاون معهم النخب السياسية تحت الطاولة. المتطرفون من اليمين، يعتقدون بأن الأقليات مُدللة وتتمتع بامتيازات كثيرة؛ مما يحوّل الموارد بعيدًا عن الأغلبية التي تعاني.

التعددية الثقافية والاندماج الاجتماعي

سمحت أوروبا لأعداد كبيرة من المهاجرين دون الاهتمام بمسألة اندماج هذا العدد بالجسد الاوروبي مما ادى الى تآكل التماسك الاجتماعي، وتقويض الهويات الوطنية، وتراجع ثقة الناس بالسياسيين. ويرد انصار التعددية الثقافية، من ناحية أخرى، بالقول ان التراجع يعود الى تنامي العنصرية. أصبحت التعددية الثقافية شماعة لغيرها من القضايا الاجتماعية والسياسية: الهجرة، والهوية، وخيبة الأمل السياسية، وانخفاض الطبقة العاملة. 

اليوم، تعتبر ألمانيا الدولة الثانية عالميا المفضلة لدى المهاجرين، بعد الولايات المتحدة. في عام 2013، أكثر من عشرة ملايين شخص، أو ما يزيد قليلا على 12 في المئة من السكان، هم من المهاجرين. في النمسا كان الرقم 16 في المئة، في السويد 15 في المئة، وفي فرنسا وبريطانيا، حوالي 12 في المئة. من منظور تاريخي، إن الادعاء بأن هذه الدول هي أكثر وحدة اليوم من أي وقت مضى ليس دقيقا كما قد يبدو. أن المجتمعات الأوروبية في القرن التاسع عشر تبدو متجانسة من وجهة نظر معاصرة، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لهم في ذلك الحين.

ماذا ينتظر أوروبا؟

مصير أوروبا خلال الأعوام المقبلة اجتياح اليمين المتطرف لأوروبا على مستويات التيارات الشعبية والأحزاب السياسية والبرلمانات، حتى أن صعود اليمين المتطرف وصل إلى الاتحاد والبرلمان الأوروبي. وتهدد زيادة مقاعد اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي وبرلمانات الدول الأوروبية، تماسك الاتحاد الأوروبي وتزيد من النزعة المتطرفة، خاصة في ظل تنسيق الأحزاب اليمينية في إيطاليا وبولندا والمجر والسويد.

نجاحات بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في الحصول على أصوات الناخبين، يعود إلى غياب الخط الفاصل بين برامج الأحزاب الإيديولوجية المختلفة. فلم يعد ثمة من فارق أساسي اليوم بين برامج كل من اليسار واليمين، وصارت الحكومة الأوروبية الحالية تنهض على هيكلية فسيفسائية تجمع أكثر من تيار، وأكثر من توجه إيديولوجي، يصعب القبول بقدرتها على اتباع سياسة وطنية موحدة ومتوازنة. وصارت التعارضات القائمة بين اليسار واليمين التقليدي تذوب في جملة الخيارات السياسية الجديدة كالشراكة الأوروبية، أو التحالف مع أميركا، أو حتى في سياسات التعايش بين رئيس جمهورية يساري ورئيس حكومة يميني أو العكس.

مع ذلك، ورغم كل ما يمكن أن تحقق هذه الأحزاب من كسب لأصوات الناخبين صعوداً وهبوطاً، فإنَّها لن تؤسس بأي حال وفق منطق طبيعة الحدث السياسي وصيرورته لأي استمرارية سياسية فاعلة، فهي بالدرجة الأولى تعتمد منظور ديماغوجي لا يصمد أمام مصداقية الفعل التاريخي. وهكذا فإنَّ دورها الوحيد والممكن بالقياس إلى التتابعية التاريخية للأشياء هو ما تكشف عنه من أوجاع الناس وإحباطاتهم، وفقدان للثقة في وعود الساسة والسياسيين. إنَّها على نحو ما، تمثل “عثرة” نافعة ولحظة وجع تاريخي لإيقاظ الضمير “الديمقراطي”، الذي تكاسل في زحمة الرتابة السياسية ولجأ إلى المعارضة السلبية. هذه اليقظة هي التي ستؤسس للفعل السياسي- الأوروبي القادم.

ويعتبر تدهور أوضاع الأقليات في أوروبا من العوامل الأساسية الناتجة عن صعود اليمين المتطرف في أوروبا، خاصة العرب والمسلمين، فمن المتوقع أن تؤدي النزعة اليمينية المتطرفة، على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، إلى فرض المزيد من القيود على الحقوق الاجتماعية والثقافية للأقليات، والجاليات الأجنبية، مع توقعات بفرض المزيد من الشروط التعجيزية فيما يخص الهجرة، والتجنيس. كذلك من المتوقع أن يعاد النظر في عضوية الاتحاد الأوروبي أو في نمط تنظيمه للعلاقات بين أعضائه، بسبب إعلان الأحزاب اليمينية المتطرفة انتقادها الحاد لما تسميه، سيطرة المؤسسات الأوروبية الاتحادية على القرار الوطني للدول، وتستهدف هذه الأحزاب تفكيك الاتحاد الأوروبي، وانفصال دوله، وإلغاء عملة اليورو، وإعادة التداول بالعملات القديمة، ووقف الهجرة المفتوحة.

بيد أن هناك اتجاهاً أكثر تفاؤلاً يرى أن هذا الصعود لليمين المتطرف ربما يكون بداية النهاية لهذه الظاهرة، وذلك استناداً إلى أن الجيل الأوروبي الحالي، الذي نما وترعرع في ظل الرفاهية والحرية والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان كمُسَلَّمات وفق النموذج الأوروبي، سيشعر بخطر صعود هذه التيارات، ومن ثم سيرفضها. كما أن إتاحة المجال لأحزاب اليمين المتطرف لنيل التمثيل السياسي، والمشاركة في التداول على السلطة، من شأنه أن يعرض هذا اليمين جدياً لما ظل يتجنبه، وهو أن يُوضع أمام اختبار عقلاني عملي سيكشف أنه لا يملك البديل الحقيقي للقوى السياسية التقليدية.