صفقة القرن.. من دفع ومن سيدفع؟

مسيرة متعثرة للدفاع عن القضية الفلسطينية مليئة بالمناورات والانقسامات.

يقول المثل الصيني "انك لا تستطيع ان تمنع طيور الحزن من ان تحلق فوق راسك، لكنك تستطيع ان تمنعها من ان تعشش في شعرك." عندما زار السادات القدس في العام 1977 كانت مشاعر غالبية العرب مستفزة، والتظاهرات التي عمت المدن من الدار البيضاء الى بغداد، لم تكن فقط من صنع الحكومات، ولم تكن للاستهلاك الاعلامي وامتصاص النقمة، وان كان ذلك في بال اغلب الحكام العرب، وانما وجد هؤلاء الحكام انفسهم وسط سيل جارف من الغضب الجماهيري، فسايروه واستثمروه سياسيا لتسويق انفسهم، بمعنى ان الموقف الشعبي العربي من قضية فلسطين لم يكن منافقا، لكن النفاق كان وما زال رسميا.

نعم، هناك ثوابت وخطوط حمراء دولية، ومن ضمنها اسرائيل ووجودها الذي فرضته ارادة الكبار في لحظة تاريخية، كان العرب، بفعل عجزهم البنيوي، وقتذاك، خارجها. لكن مرحلة ما بعد التقسيم، شهدت مواقف وسياسات اسرائيلية، لم يكن التصدي لها ضمن الخطوط الحمراء الدولية، وانما هناك هامش مناورة كبير للعرب، كان بإمكانهم العمل فيه ومن خلاله، لتحقيق مكاسب على الارض، تعيد بعض الحق في الاقل. لكن انقسام الحكام بين ولاءات دولية مختلفة، جعلهم في حالة عداء دائم لبعضهم، وصار هذا الاختلاف لا يضعف موقفهم تجاه قضية فلسطين فقط، وانما اضعف دولهم وفرّق الشعوب واشاع ثقافة اليأس والاحباط، الذي وصل ذروته بعد نكسة حزيران 1967 التي لم يتجاوز العرب تداعياتها حتى الان، لاسيما بعد ان كرست مفهومين متناقضين، الاول يتحدث عن ضرورة رد الحيف والحسم العسكري، والثاني يقول بضرورة الاعتراف بالامر الواقع والاعتراف باسرائيل وتسوية المشكلة سلميا بأي ثمن، ولم ينجحوا في بلورت رؤية ثالثة، مدعومة بموقف حقيقي وموحد، تقوم على مبدأ الاعتراف مقابل الاقرار، أي الاعتراف باسرائيل، مقابل الاقرار بحق العودة للاجئين، الذين هجروا من بيوتهم ظلما وتعسفا خلال حربي العام 1948 و1967 لاحراج اسرائيل ومن يقف وراءها امام الرأي العام الدولي، الذي كانت مساحة التأييد فيه للقضية الفلسطينية واسعة، لاسيما بين قوى اليسار العالمي، خلال الحرب الباردة.

ما يجب ان نعرفه، ان الاتحاد السوفييتي في وقتها ما كان ليستطيع ان يتفاعل مع الموقف العربي الداعي الى امحاء اسرائيل من الخارطة، ولذلك بقيت قضية التسليح السوفييتي للعرب خاضعة لهذه الاستراتيجية المتصلة بوضع دولي اكبر واكثر تعقيدا. ولكن الاشتغال على قضية اللاجئين والعودة الى حدود العام 1967 وحسم قضية القدس التي ظلت معلقة بعد التقسيم، لغاية صهيونية، كشفتها لاحقا، سياسة قضمة بعد قضمة! سيكون ممكنا، فعودة اللاجئين وقتذاك يخلق خللا سكانيا، يحسم الوضع سلميا لصالح العرب في اسرائيل وهو ما كانت تخشاه الحكومات الاسرائيلية، وعملت ضده بمختلف الاساليب، اضافة الى تهجير يهود البلدان العربية الى اسرائيل بطرق واساليب مختلفة لتخلق تفوقا ديموغرافيا لصالحها. بمعنى ان اسرائيل كانت تتخذ اجراءات واقعية، حققت تفوقها، بينما لم ينتبه العرب لذلك، ولم يرسموا استراتيجية حقيقية وواقعية، تقنع السوفييت والعالم بدعم رؤيتهم تلك.

وسط هذا الانقسام العربي، صار الداعون للتسوية يقيمون علاقات سرية، غير رسمية مع اسرائيل، ويتعاطون معها، بينما يحرّم ذلك الداعون الى تحرير فلسطين كلها، وان كان موقف بعضهم هذا يأتي في سياق الضغط ورفع سقف المطالب.

استمر الخلاف واستمر معه الضعف، حتى وصلنا بعد حرب التحريك، وليس التحرير، في تشرين/اكتوبر 1973 الى زيارة السادات الشهيرة، ليحرج الجميع، ويضعف الجميع، ويضع القضية كلها في مأزق حقيقي، لانه بذهابه الى اسرائيل وليس الى دولة ثالثة، فرنسا مثلا، تجمعه برئيس الوزراء الاسرائيلي، وللقدس وليس الى تل ابيب، كرّس الرؤية الاسرائيلية التوراتية، في كون القدس (اورشليم) عاصمة لاسرائيل.

من تلك الزيارة توالدت التداعيات اللاحقة. فالاردن ودول المواجهة الاخرى، صارت تتعامل مع اسرائيل بوصفها دولة جارة، وان لم تقر بهذا علنا، ويجب ان تحسم خلافها معها بصورة فردية، او هكذا بات المشهد العربي في اخر تجلياته المريرة، وبذلك سقط تدريجيا الحاجز النفسي وصار عموم العرب يتقبلون الامر ويتعاملون معه، وكأنه شيء طبيعي.

الانقسام الفلسطيني عزز هذا الامر، ووجود رؤيتين في رام الله وغزة، تختلفان تماما في كيفية التعامل مع اسرائيل، اعطى الاخيرة فرصة سياسية لتقديم نفسها على انها دولة تريد السلام مع من لا يمتلكون ارادة السلام.

التدخل الاقليمي فاقم الانقسام واضعف القرار السياسي للفلسطينيين، حتى غدت القضية ورقة سياسية تستخدمها قوى عربية واقليمية في مناوراتها السياسية ولتسويق نفسها اعلاميا على انها الراعية لها والمعنية بها، مع ان تقدما حقيقيا على الارض لم يحصل، وظلت القضية تتراجع، قبل ان يعصف "الربيع العربي" بما تبقى منها، اذ اصبحت اكثر من دولة عربية غارقة في مستنقع من الكوارث، وهذه بالتأكيد لم تأت اعتباطا، وانما في سياق خطة محكمة، اعدت في الغرف المظلمة، لتهيئة الارض والنفوس معا، وها نحن نحصد الثمار المرة لسياسات غير حكيمة ولامسؤولة، وان ما يعرف اليوم بصفقة القرن، هو نتيجة طبيعية لهذا المسلسل التراجيدي الطويل.

نعم لم يكن بإمكان العرب طرد طيور الحزن التي حلقت فوق رؤوسهم قبل اكثر من سبعة عقود، لكنهم وللاسف جعلوها تعشش وتفرّخ ايضا في شعر رؤوسهم وصدورهم، وهم يتلقون نقرها وذروقها يوميا، بصمت. وربما بأسف ايضا!