صورة باهتة لخزان الخبرة السياسية في الأردن

الحكومات لا تخضع عمليا للمحاسبة عن أخطائها حتى لو كانت الأخطاء واضحة. تحكم إلى ما شاء لها الملك أن تحكم، ثم يمضي رؤساؤها الى بيوتهم أو يعودون إلى أعمالهم أو إلى عضوية مجلس الأعيان.
ما يمكن ان يكون مقنعا من أحاديث رؤساء الوزراء السابقين هو الإقرار بالأخطاء
مساحة السلطة الفعلية للحكومات محدودة بالخطوط التي يرسمها الملك عبدالله الثاني

كلهم إصلاحيون وناصحون أمناء وناطقون بالحق. كلهم ينادون بالاقتراب أكثر من احتياجات الناس وهمومهم ولا يعنيهم إلا درء الأخطار المحدقة بالبلد! كلهم لديهم فائض من عبارات التنظير والكلام العام الذي لا يعبر عن اي موقف واضح ولا يفصل زبدا من لبن. 
هؤلاء هم رؤساء الحكومات السابقة الذين كثرت إطلالاتهم في الآونة الأخيرة تماشيا مع موسم الاصلاح السياسي الذي تمر به المملكة، بعد أن ظل حضورهم في الإعلام لا يخرج عن المشاركة خصوصا في جاهات الخطوبة والمناسبات الاجتماعية الأخرى.
الناس تعرف ان جزءا كبيرا من مشاكل البلد هو نتيجة طبيعية للسياسات الضعيفة والأداء المتواضع الذي قدمته الحكومات المتعاقبة وأفضى الى ما نحن فيه من أوضاع اقتصادية صعبة ومشهد سياسي جامد وحالة احتجاج شعبية كامنة.
كما أصبح من المعروف والسهل على أي رئيس وزراء جديد ان يلقي باللوم على الحكومات السابقة في ما آلت إليه البلد، ويجد ذلك مقبولا ومعقولا. وهو ربما كذلك. لكن هذه النغمة صارت تبعث على السأم لكثرة ما تتردد على أسماع الناس.
إذن ثمة ما يوحي بـ"انسجام شعبي ورسمي" في تحميل الحكومات السابقة جانبا من المسؤولية عن الأوضاع الحالية، غير أن هذا يذكّر ايضا بأن الحكومات لا تخضع عمليا للمحاسبة عن أخطائها أو الرقابة على أعمالها حتى لو كانت الأخطاء واضحة. تحكم إلى ما شاء لها الملك أن تحكم، ثم يمضي رؤساؤها الى بيوتهم أو يعودون إلى أعمالهم أو إلى عضوية مجلس الأعيان.
الأسبوع الماضي دعا رئيس وزراء سابق إلى عدم الاكتفاء بالتنظير السياسي لكنه في نفس المقام استدعى الأدبيات الأولى في الإنشاء السياسي، بعبارات من قبيل ان "المستقبل للأحزاب الاصلاحية" والاحزاب الناجحة ينبغي أن تكون وطنية وقريبة من الناس. والديمقراطية هي افضل ما وصلت إليه أنظمة الحكم!
الحقيقة ان ردود الأفعال في الرأي العام على أحاديث رؤساء الحكومات السابقة تتراوح من الانتقادات لمجرد ظهورهم في وسائل الإعلام والحديث عن شؤون الحكم، الى التساؤلات الساخرة عما أورثوه للحكومات اللاحقة من تركات ثقيلة. 
هذه التركات الثقيلة التي تراكمت على مدى عقود تنعكس الآن على شكل ارتفاع في معدلات الفقر ووصول البطالة الى نصف الشباب وديون تتجاوز قيمتها ما ينتجه البلد، الى جانب ضعف المشاركة السياسية والقيود المفروضة على الحريات العامة.
هل يشعر أي رئيس وزراء سابق بأنه يتحمل جزءا من المسؤولية عن ذلك، أم إن الأخطاء هبطت على البلد من غامض علم الله، وصار طبيعيا أن يقال رئيس حكومة او وزير من منصبه بسبب تقصير أو اهمال ثم يتم تعيينه في موقع آخر مهم؟
لكن الحقيقة ايضا ان مساحة السلطة الفعلية للحكومات محدودة بالخطوط التي يرسمها الملك عبدالله الثاني في مجالات الأمن والسياسة الخارجية والاقتصاد، ويكاد دور الحكومة، أي حكومة، محصورا بالوظيفة التقليدية لأجهزة الإدارة العامة.
القاعدة الراسخة في السياسة والإدارة تقول ان "المسؤولية على قدر السلطة". ولعل هذا ما يولد الشعور لدى رؤساء الحكومات والوزراء السابقين بأنهم غير مسؤولين عن الأخطاء المتراكمة، ما دامت السلطة الكاملة ليست بأيديهم.
رئيس وزراء سابق ينتقد تعاطي الحكومة مع مشروع الاصلاح السياسي الذي تمر به المملكة، لكن بتصريحات متحفظة أشبه برؤوس أقلام، لا تكشف عن مكامن الخلل ولا تطرح البدائل.
قبل شهرين، وصل رئيس وزراء سابق الى استنتاج مفاده ان الأردن "وطن هائم على وجهه دون مقصد أو بوصلة" غير انه أحاط حديثه بالاستعارات والمجاز والعبارات حمّالة الأوجه دون أن يُلزم نفسه بأي موقف.
قد يقال ان الظهور المتكرر لرؤساء الحكومات السابقين في وسائل الاعلام وانتقاداتهم المطاطية، تعكس مقاومة من نوع ما للتحول السياسي الذي سوف تشهده المملكة حين تتحول الى نظام الحكومات البرلمانية بعد تعديل الدستور وإقرار القوانين ذات الصلة.
لكن رؤساء الحكومات يعلمون ان الحال لن تتغير كثيرا بعد الدخول في عهد الحكومات المنتخبة، التي جرّدها التعديل الدستوري الجديد من صلاحيات كانت للحكومة ومنحها للملك. كما ان هذا العهد لن يبدأ قبل مضي عشر سنوات من الآن.
ظهور رؤساء الحكومات المتجدد ليس مقتصرا على الحديث في الاصلاح السياسي، إذ يحدث ان يتهجم وزير سابق للداخلية على رئيس وزراء سابق بنبرة عشائرية، فيخرج رئيس وزراء سابق ويعتذر منه باسم القبيلة التي ينتمي اليها هو والوزير.
هذا الظهور الباهت لبعض من كبار المسؤولين السابقين يعبر عن حجم اهتمامهم بما يمكن أن يفيد الناس أو يسهم في تطوير المشهد السياسي. وهم أيضا لديهم مساحة محددة يتحركون فيها ويتكلمون وينتقدون.
من المفترض ان تمثل تجارب المسؤولين السابقين في الحكم جزءا من مسار واضح وشفاف لتصحيح الممارسات بدلا من التغاضي عن الأخطاء وإدامتها، وخزان خبرة للبلد الذي لديه الآن 17 رئيس حكومة سابقة ومئات الوزراء على قيد الحياة.
ما يمكن ان يكون مقنعا للرأي العام من أحاديث رؤساء الوزراء السابقين هو الإقرار بالأخطاء او على الأقل تحديد مواقفهم بوضوح تجاه السياسات العامة، وإلا فإن ظهورهم في جلسات عقد القران والمصالحات سيكون منسجما أكثر مع دورهم الحقيقي في المشهد العام.