جزر صغيرة معزولة في الأردن تسمى الأحزاب

لا يمكن أن تتجدد الحياة الحزبية بقرارات او تعديلات تشريعية معزولة عن السياق السياسي العام والثقافة السائدة، إلا إذا كان الهدف هو اختزال مشروع الإصلاح برمته في شكل أحزاب لا تقنع أحدا ولا تملك من أمرها شيئا.
أقل من أربعين ألف عضو في خمسين حزبا في الاردن
ما سيتاح للحكومات الحزبية في المستقبل لن يعدو عن كونه هوامش حكم محدودة

ما إن بدأ مجلس النواب بمناقشة قانون الأحزاب حتى ظهرت محاولات لتأسيس أحزاب جديدة في الأردن كما لو كان ذلك مشهدا مرسوما أو مرآة مصغرة عن مستقبل الحياة السياسية الذي أفرغته التعديلات الدستورية الأخيرة من أي مضمون إصلاحي حقيقي.
وبدا الأردن وكأنه حديث عهد بالأحزاب ولا يزال يتلمس أولى خطواته على طريق العمل الحزبي الذي سيمثل نظريا نواة المشاركة السياسية الموعودة، والمشكوك في صدقيتها وقدرتها على صنع فرق.
أحيطت المشاركة في الأحزاب والانضمام إليها بكثير من التشجيع الرسمي والضمانات والتطمينات. وأوحى ذلك كله بالجدية في إرساء مشهد حزبي فاعل. لكن ماذا بعد، وماذا إن لم نكن فعلا بحاجة الى أحزاب؟
في أواسط القرن الماضي، كانت ثمة حياة حزبية نشيطة في الأردن، مدفوعة بالاستجابة الطبيعية الى المد الايدولوجي الذي كان يجتاح الاقليم آنذاك. وتأسست أحزاب قومية واشتراكية من بعثيين وناصريين وشيوعيين مع وجود جماعة الإخوان المسلمين.
لكن على مدى العقود الماضية تضاءل تأثير الأحزاب على الساحة السياسية بفعل موجات من التضييق الأمني والأحكام العرفية والاعتقالات، حتى صار التحزب تهمة من شأنها أن تجر المتاعب، في العمل والدراسة على الأقل.
استعادت البلد شيئا من حياتها الحزبية في أواخر الثمانينيات، وما لبثت ان تراجعت تحت الضغط الأمني وضعف التمويل وتواضع التمثيل الحزبي في البرلمانات. وصار الخطاب الحزبي أقل إقناعا لقطاعات عريضة من الأردنيين. حتى انصرف الناس عن الأحزاب كنتيجة طبيعية لما يجري.
في 2022، لدينا أقل من أربعين ألف عضو في خمسين حزبا وتمثيل حزبي لا يذكر في البرلمان. هذه الصورة المشتتة الضعيفة هي في الواقع مرآة للحال التي وصلت إليها الأحزاب، وهي تستعد لخوض تجربة تشكيل الحكومات باعتبارها المحور الرئيسي للإصلاح السياسي.
قررت مؤسسة الحكم أن تعيد الحياة الى النشاط الحزبي. كما قررت ان تشكيل الحكومات من أحزاب البرلمان سيبدأ بعد عشر سنوات على الاقل. وقالت إنها تفضل أحزاب البرامج على الأحزاب الايدولوجية. وفوق ذلك، فرضت مزيدا من القيود على إنشاء الأحزاب ووضعت نسبا مئوية للشباب والنساء.
هذه الوصفة لا يعقل أن تبنى عليها أحزاب وحياة سياسية فاعلة، بل هي وصفة أقرب إلى عمل الجمعيات التعاونية والروابط العشائرية والمناطقية، التي يفضل الأردنيون الانتماء اليها على الانخراط في الأحزاب.
لا يمكن أن تتجدد الحياة الحزبية بقرارات او تعديلات تشريعية معزولة عن السياق السياسي العام والثقافة السائدة، إلا إذا كان الهدف هو اختزال مشروع الإصلاح برمته في شكل أحزاب لا تقنع أحدا ولا تملك من أمرها شيئا في سياسات الحكم وإدارة البلد.
هل يصدّق الناس مؤسسة الحكم وهي تشجعهم على الانتماء الحزبي، وتفرض عليهم قيودا صارمة في حرية التعبير وتسيّر "دوريات إلكترونية" لملاحقتهم على ما يقولون ويكتبون على الانترنت ووسائل التواصل؟
كيف تكون لدينا حياة حزبية قبل ان تكون الحريات العامة في مستواها الفردي والاجتماعي المناسب لممارسة السياسة، وما يتطلب ذلك من رفع اليد الأمنية عن ملاحقة الناشطين والمحتجين؟
توجه مؤسسة الحكم نحو الشباب وحثهم على الانخراط في الأحزاب لا يجيب على أسئلة اخرى متعددة بعيدة عن السياسة لكنها قريبة من مشاغل هذا الفئة التي التهمت البطالة أكثر من نصفها.
وفي حين تنفصل توجهات الحكم في إشاعة الانتماء الحزبي عن الواقع السياسي والاقتصادي المعاش، تتحول الأحزاب الى هدف بحد ذاتها لا وسيلة لتحقيق المشاركة الشعبية في صنع القرار.
هذه المخلوقات او الكيانات السياسية لا بد ان تصبح مثل جزر معزولة ومتفرقة لا رابط بينها، ما دام تأسيسها لا يقوم على حاجة حقيقية وشروط إنشائها لا تشجع على استدامة العمل الحزبي، وقبل هذا كله تأثيرها المتواضع على الحكم والساحة السياسية.
الحكومة التي ستقودها أحزاب في قادم السنوات ستكون لديها سلطات أقل من الحكومات الحالية المشكلة من قبل الملك، وذلك بمقتضى التعديلات الدستورية التي اقرها البرلمان وما يلحق بها من تعديلات أيضا على قانوني الأحزاب والانتخاب.
سحبت التعديلات الدستورية من الحكومة صلاحيات أصيلة مرتبطة بولايتها العامة على البلد. وصار رئيس الحكومة عضوا في مجلس للأمن القومي يدعوه الملك للاجتماع ويشارك فيه الى جانب أعضاء اخرين.
ولا تجد مؤسسة الحكم حرجا في القول ان دور المجلس سيكون بمثابة الضامن لئلا تؤثر الأحزاب على الشؤون الأمنية وقضايا السياسة الخارجية، عبر الحكومات القائمة اصلا على أحزاب!
لن يكون للحكومة دور في اختيار مجموعة من المناصب التنفيذية العليا على غرار مدير الأمن العام والمفتي العام وقاضي القضاة. وأصبح هذا كله من سلطات الملك الإضافية التي ينفرد بها دون توصية او تنسيب من الحكومة.
الوصول الى الحكم يقع في صلب فلسفة وهدف أي حزب على وجه الأرض، سواء تشكل بطريقة اعتباطية أو كان نتيجة طبيعية لممارسة الفعل السياسي في أجواء عامة مريحة وبيئة تشريعية ملائمة.
لكن ما سيتاح للحكومات الحزبية في المستقبل وفق الدستور لن يعدو عن كونه هوامش حكم محدودة لن تصنع اي تحول حقيقي ولن يكون لها تأثير في المشاركة السياسية.