طلال الغوار يسحبنا عبر طرقات تتنقل به عبر خمسين عاما مضت

الكاتب يسرد مواقف من سيرته الذاتية في 'نداء لصباحات بعيدة' دون ان ينسى أنه شاعر، فتترادف الذكريات والصور بلغة شعرية تذكرني بمجاميعه السابقة.

كتابة السيرة الذاتية ليست حكايات عن ايام مضت فقط من حياة الراوي.. فهي قبل هذا حالة تأمل، ومراجعة صريحة لمواقف وأحداث بقيت لاصقة بالذاكرة، التي تستعيدها للتأمل وقراءة "خفاياها" كما يشير الشاعر طلال الغوار وهو يكتب " نداء لصباحات بعيدة" بعدما يُجلِس الزمن قبالته على كرسي خفي فيمنحه " بعضا مما احتفظ في طياته من صفحات الحياة".

طلال الغوار حين يسرد مواقف من سيرته الذاتية لم ينس أنه شاعر، فتترادف الذكريات والصور بلغة شعرية تذكرني بمجاميعه السابقة، وكتابه "انثيالات الشعر والطفولة والحياة"، حيث يرسم بالكلمات صورة النهر والطفل والقرية، منطلقا من البيت الذي "كان مبنيا من الطين (الطوف)، وسقفه من الخشب وأغصان الأشجار والشوك"، فهناك تكمن " البدايات ونداء الطفولة" وتشكل الوعي الاول اتجاه الحياة، حيث تنكشف السماء امام المرء، حتى يروم الوصول الى نجومها البعيدة. " مرة، وقفت نجمة عند الكوة العالية في حائط البيت عرضت عليَ مفاتنها واختفتْ".

لكن ليس النجمة وحدها من كشفت مفاتنها للصبي  الذي "كان يرعى الأغنام والعشب والأشجار والتلال، وكان يتأبط النهر مع صباحات طيّعة حتى تتعب من السير في خطوات الضفاف" .. كانت هناك ليلى الصبية التي تتقدم الاولاد الستة قاصدين النهر، لكنهم يعودون وحدهم فيما تختفي ليلى .. يكبر الصبية وتبقى صورة ليلى عالقة عند الضفاف ، ويقف هو يحاول قراءة رسائل النهر لكنه لا يعرف لغة الماء التي يتمنى معرفتها لقراءة الرسائل التي تبعثها الموجات " قبل أن تنتحر في صخور الشاطيء!!".

ولما كانت الذكرى تمرّ بالبيت الطيني القديم، والصبي الذي يعشق تسلق الاشجار، وليلى والنهر، لابد أن تمرّ بالاب الذي كان على غير عادة اهل القرية يرتدي لباسا مدنيا ويعمل في دائرة حكومية، لكنه في لحظة ما تجرفه السياسة حتى يجد نفسه، بلا عمل، ليعود الى الارض يقود المحراث، بعدما توقف فجأة دون أن يكمل الطريق.

هنا يعود الغوار لمرافقة والده، الذي تعلم منه دروسه الاولى في الحياة، اباه الذي يعرفه تماما كما يقول "كان يحمل خيباته الكثيرة كما لو أنها أغصانا يابسة تتكسر في أعماقه، لكنه مازال يتخذ من الحلم عكازا يفتتح به صباحاته".. اي صورة تلك التي يرسمها الغوار لوالده، وأي أب ذاك الذي يترك مخطوطا ضخما من القصائد، تنضح بعطرها في ذاكرة الصبي التي تختزن صورة ابيه الذي "ما زال حيا" رغم رحيله بعد أن تخلت الاحلام عنه وتركته السياسة منزويا في قريته فاقدا لبصره، لكنه يبقى نافذ البصيرة.

وعبر محطات الذاكرة يسحبنا طلال الغوار في تأملاته لنرافق خطواته على الطرقات التي تتعدد وتتفرع وتتشابك لكنها "مهما تباينت في مسافاتها وتضاريسها فإنها تلتقي عند سؤال وجودي، الى أين تأخذنا؟ هل كنا مرغمين ونحن نغذ السير فيها أم مستأنسين في متاهاتها ومفاجأتها؟".. هنا نشعر أن الكاتب يتحدث بلساننا فهذه التساؤلات التي تولد بعضها لتتفرع كشجرة تساؤلات محملة بالكثير من علامات التساؤل التي علينا أن نجيب عنها، بشيء من الشجاعة حتى نجد الأجوبة الصريحة، الحقيقية المنبثقة من رؤانا للحياة التي خلفناها وراءنا على مسافة من الزمن تمتد حتى نصف قرن وربما أكثر.

طرقات الحياة عند الغوار " قصائد" و "جراح" و "مناديل تدون احلام الانتظار"  تتجلى في تعب الفلاحين، ووجوه النساء المتعبات العائدات من الحقول الى بيوتهن، وغناء العشاق في الليل، وصياح الصغار بين الحقول وهم يغذون أحلامهم الى المدرسة.

هكذا تتحول الطرقات في حياة الغوار الى "أحلام والضياع فيها الى أكتشاف" وهو رغم نصيحة ابيه بأن لا يسر في الطرقات التي سبقها اليه، لم يشأ الا أن يكرر التجربة، وعبر طريق السياسة الذي قاد الأب الى السجن وابعده عن وظيفته، كرر الغوار الخطوات وسار في طريق السياسة لتتكرر المعاناة وينغرس الالم في روحه الشفافة، لكنه لم يعد الى القرية بل تأبط كتبه واوراقه وراح يكتب ويتسلق سلّم الكلمات حتى يصل الى ما لم يصل اليه ابيه، فينثر قصائده دواوين وكتب... الكتب الذي يحملها وتترصدها عيون المخبرين السريين، بحثا عن أفكار "معادية" للنظام يتداولها الشباب عند مقهى مرعي المنعزل في تكريت.

لكن الفتى قبل أن يخرج من قريته يبقى متعلقا بوجه مريم الذي يرافقه في المدرسة من الصف الاول حتى الرابع فتصير حروف اسمها دقات قلب، ويرافقه صوتها بدل عن الملائكة التي تواكب خطوات الصغار.. اي بوح ذلك الذي ينثال عبر ثقوب الذاكرة، وأي احساس ذلك الذي تبعثه فينا كلمات الغوار وهو يتحدث عن مريم فيثير في جوانحنا الشجن ويسحبنا معه الى ايام الدراسة الاولى وكأنه يقول هذا أنا داهمني الإحساس بالوّد منذ الصغر فما أنتم فاعلون. اظن هنا يحتاج المرء الى الكثير من الجرأة والشجاعة للبوح بما تكنه مشاعره التي تدغدغ روحه الغضة في ذلك الوقت، وفي قرية تسورها الاعراف والتقاليد والانغلاق عن العالم الخارجي.

وكما تترآى صورة مريم الصغيرة وهي تكبر وصدرها ينبض بالوجد، ولكن لم تكن مريم الا شعورا عابرا يقف عند اعتاب من أحبها بصدق وكتب لها الرسالة الاولى في الحب، التي لم يجد مكانا ليلتقي بها غير المقبرة " ما أغربك أيها الحب وما أعجبك، حيناً تعصف بي وجعاً مراً، وحينا تغدو لحنا يطلع من زهرة"..

لا أدري هل كان أرث الأب من جعل طلال الغوار يكتب شعرا، ام الهام حبيبته الاولى التي لم يسمها، فبقيت سرا لا يبوح به حتى وهو يفتح ذاكرته لتتسرب الصور والاسماء والأحداث منها على الورق. " مذْ أحببتك كتبت الشعر، وكأني ارى الحب كما الشعر، اتطلع من نوافذ الغيب وأرى ما لا يراه الآخرون"..

وهكذا يستمر السرد الجميل الذي يتنقل بنا بين مسارات مختلفة من حياة طلال الغوار، يقفز هنا عند النهر، ويقف هناك عند زنزانة يدفع اليها ليستلقى في جوف العتمة فراشه بطانية قديمة ووسادته حذائه "وجد لكي يتعذّب، ربما من أجل أن يكون له معنى، فبغير المأساة لا معنى له". هكذا يرى الأمر اليوم "اتأبط العتمة واسافر بعيدا ولا أدري أين وجهتي وهي تقرأ لي قصائد بلا كلمات.. حفرت حياتي على جدران الزنازين يوما فيوماً، وأنا اقف أمام حاضر معتم أم أمام مستقبل لا اتبين منه شيئا".

أن الايام التي تنقضي بالتنقل من سجن الى سجن ومن الزنزانة الى غرف التحقيق، ومن المحققين الى المخبرين السريين الذين يتبعون خطواته وهم يتنصتون السمع للكلمات التي يتفوه بها مع اصدقائه. ولكن كل هذا يقف عند اعتاب الحرب " حين أخذتنا الحرب، وسارت في خطواتنا الخنادق كنا محملين بالأحلام، لكننا خرجنا ونحن محملين بالأسئلة".. اية معان تلك التي رسمتها لنا الحرب التي استمرت طويلا، وخلفت في ارواحنا الكثير من الرؤى والاسئلة التي نخشى طرحها فنبقى ملتفين بالصمت " الصمت قد يقول احيانا اشياء لم تستطع الاصوات أن تقولها، الحقيقة الصامتة".. الحرب توقفت ولكنها كما يقول الغوار "لم تنتهِ".

وفي غمرة انغماسنا بالحروب نقف عند اعتاب 2003 حيث ينطلق التساؤل الوجودي "الى أين سيمضون بنا؟" وهنا يتحول الوجود من الفرد الى المجموع، الى الوطن الذي يتشظى ويتقسم مكونات متعددة تحت نظام المحاصصة حتى تصبح بغداد بلا بغداد وتتشكل ايام "متوجة بالموت، التفخيخ يأخذ أشكاله المختلفة" .

وحين توقظ اصوات الانفجارات الذاكرة تتحول الكلمات من الشعرية الى الواقع المرير، وتصبح الحياة في عيني الشاعر "متاهة والأيام يكتبها الطارئون بنظراتهم المدببة، ويكتبها المخادعون بحركاتهم البهلوانية و(الساسة) الملتحون والمعممون تفح من انفاسهم رائحة الطائفية النتنة". وفي ظل هذا الانحسار وخيبة الأمل، وحين يفتقد الشاعر في بغداد ما يعشقه فيها، يتحول نحو دمشق " كلما أوغلت خطواتي بعيدا في دروب دمشق القديمة، أشعر أن عطر الياسمين يختلط مع عبق التاريخ، فتأخذني نشوة لم يتسع لها كلّ هذا البهاء فاحسّ وكأني اعرفها جيدا وأني أتآخى مع كلّ ما يحيط بي".

لقد قدم لنا طلال الغوار في تأملاته بسيرته الذاتية مائدة منوعة تجعلنا نتنقل بين اطباقها بلذة، وكأننا نريد أن نتعرف على كلّ شيء، ولكن يبقى سؤال يراودنا: هل قال الغوار كلّ شيء؟

التنقلات الزمنية والتقاطعات بين الأحداث تجعل هناك ثغرات زمنية وبياض يحتاج أن نتوقف عنده، فما لم يقله الغوار في "نداء لصباحات بعيدة" ربما نجده في مجاميعه الشعرية وكتابه "انثيالات الشعر والطفولة والحياة" حيث تتقاطع الرؤى وتبرز من جوانب القصائد والكلمات أشياء كثيرة تجعلنا أمام إنسان يحمل في داخله الكثير ليقوله، وإذا كان قد باح ببعض من اسراره، فأنه لم يفعل ذلك بكتابة سيرة ذاتيه، او كتاب مذكرات بل عبر تأملات تحمل أفكارا ورؤى عن مراحل متعددة مرّ بها البلد وما زال، فالأفكار كما يكتب طلال الغوار على الغلاف الأخير من كتابه "حدائق، وهكذا عليها أن تكون". واذا كانت هي كذلك فقد حوت حديقة الغوار الكثير مما يمكن اعادة قراءته ليس بكونه سردا لمحطات مرّ بها شخص ما، وأنما صورة حية لبلاد تضمد جراحها بالآهات.