عاد من حيث أتى

مع البطريرك صفير حملنا صيغة التعايش ومشينا نبشر بها دين الشرق الجديد.

عاد من حيث أتى. اليوم أنزل عن الصليب. رجع عشية مئويته وقبيل مئوية لبنان الكبير. رحل وهو يعاين بألم ترنح هذه التجربة العظيمة التي لم يقدر اللبنانيون قيمتها التاريخية، فتعاملوا مع لبنان كأنه عقار يتوزعونه ويوزعونه لا كيان يجتمعون فيه ويعممون رسالته على الشرق الأوسط.

بعيد استقالة البطريرك صفير كتبت في مجلة "المسيرة" (5 آذار/مارس 2011): "قليلون هم الذين يلجون الأزلية أحياء. إنها أعجوبته الأولى. البطريرك مار نصرالله بطرس صفير خرج من البطريركية ليدخل الطوباوية. لم يستقل، ترقى. صعد إلى السماء وهو لم يزل في بكركي. وبكركي، رغم التصاقها بالأرض، ليست بعيدة عن السماء. ومن يستكثر على البطريركية المارونية مجد لبنان، فمجد السماء يكفيها. والباقي تحصيل حاصل."

كان لا بد للبطريرك صفير من أن يرتاح بعد عناء النضال والمقاومة، لا من ثقل السنوات التسع والتسعين فقط. كانت سنوات عهده عصيبة وعصبية، مضطربة ودموية، قاهرة ومنهكة. شهدت عودة المماليك والمغول. كان البطريرك صفير بطريركا وقائد مقاومة وزعيما وطنيا. لم يشأ، بداية، أن يحجب دور السياسيين الموارنة، مع أن البطريركية المارونية أنشئت في أواخر القرن التاسع لتقود شعبها وتحميه. لكن غياب القادة الموارنة الكبار والتغييب القسري للقادة الجدد وانقساماتهم أناطت، منذ أوائل تسعينات القرن الماضي، بسيد بكركي مسؤولية القيادة الوطنية فتحملها بحرص وشجاعة.

بآيات الإنجيل واجه البطريرك صفير ألوية الاحتلال والنظام الأمني. بفقرة في قفلة عظاته جيّش الشعب وأنب الرؤساء والحكام وسائر أدوات الوصاية. بعطر البخور أبعد دخان الفساد. بيده "المنزوعة السلاح" غفر للمتطاولين على شخصه والصرح والمقام، وبمذكراته الباكرة كشف المستور.

بعد اعتلائه سدة البطريركية بسنوات قليلة، سلمت الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، لبنان إلى أعدائه وغسلت أياديها من مسيحيي لبنان ومن لبنان كدولة حرة ومستقلة. فاختار البطريرك صفير المقاومة السلمية، الصابرة، الثابتة والعنيدة، وتحفظ عن المقاومة العسكرية ورفض التسويات السياسية. اضطر البطريرك إلى التكيف مع وقائع مؤلمة أحيانا من دون التخلي عن مشروع التحرير والأهداف السامية. لم يرضِ أسلوبه كل الناس، لاسيما حين تقبل "اتفاق الطائف"، وقد مات قبل أن يرى حسن تطبيقه.

أحببنا البطريرك صفير وارتحنا إليه، ووثقنا به. لم يجازف بنا، لم يضحك علينا، لم يستغل طيبتنا، لم يساوم على شهدائنا، لم يقايض على استقلالنا، ولم يعدل بالأولويات. لم يخضع لقريب أو بعيد، لقوي أو متجبر، لم تلوثه السياسة ماديا ولم تبعده عن المسبحة. لم يسكر بمجد الأرض وبهاء الانتصار، ولم يستوحِ مواقفه سوى من مصلحة المسيحيين وكل اللبنانيين.

من يراجع سير البطاركة الموارنة الستة والسبعين، يكتشف بسهولة أن البطريرك صفير هو أحد أهم من بلغوا هذا المنصب المميز في بلاد الشرق وأنطاكية. عدا الفضيلة والعفة والتقوى، ترك هذا البطريرك الكبير مواقف وبصمات وإنجازات أبرزها:

  • كشف السياسيين وفضحهم وحد من سيطرتهم على الشعب.
  • تعرض للاعتداء، فهجر بكركي موقتا لا هربا من الأمويين والعباسيين والمماليك العثمانيين، بل احتجاجا على هوس مجموعات مارونية.
  • دعا إلى مقاطعة الانتخابات النيابية سنة 1992 لمنع تهميش الدور المسيحي وقد تضاعف مع "دستور الطائف" الاعتباطي التطبيق.
  • قال: "لا" لسوريا، ورحل من دون أن يزورها.
  • استقبل البابا القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1997، وأطلقا معا "السينودوس من أجل لبنان".
  • أصدر البلاغ رقم واحد لتحرير لبنان في أيلول/سبتمبر 2000 وقاد المقاومة السلمية.
  • رعى مصالحة الجبل بين المسيحيين والدروز سنة 2001.
  • أعاد جمع القوى المسيحية في "لقاء قرنة شهوان" وصان ثوابت "ثورة الأرز".
  • عقد المجمع الكنسي الماروني في حزيران/يونيو 2003 بعد مجمع سنة 1736.
  • أشرك العلمانيين في تطوير الكنيسة المارونية في لبنان وبلاد الانتشار وحول البطريركية "صرح الشعب".
  • نظم الأبرشيات وشجع المؤسسات الكنسية على الاهتمام بالشأن الاجتماعي والتربوي.

لم يفت البطريرك صفير أن يحسم خياره  وخيارنا  قبل الرحيل، فقال: "إذا كان علينا أن نختار ما بين التعايش والحرية نختار الحرية".

قبل لبنان الكبير كانت تضحيات المسيحيين من أجل الحرية، بعده صارت تضحياتهم من أجل التعايش أيضا. حين كنا نناضل في سبيل الحرية كوفئنا، وها هو لبنان. ولما قاومنا في سبيل التعايش عوقبنا، وها هي اللبنانات. مع البطريرك صفير حملنا صيغة التعايش ومشينا نبشر بها دين الشرق الجديد. وكلما أصيبت كنا نضمد جراحاتها ونعض على جروحاتنا حتى صارت المسيرة جلجلة. ورغم أن التحولات اللبنانية والمشرقية نالت من الصيغة مقتلا، جددنا الإيمان بها على رجاء قيامتها. فأهل صيغة التعايش، وإن انحسروا، ما زالوا يدافعون عنها كما كان قلب البطريرك صفير يدافع وهو في غرفة العناية الفائقة. ولما أسلم الروح، صرخت: "خذني معك".