عالم الصور الذي يهزم الواقع العربي

لم يُفرض غطاءُ الرأس على النساء من قبل الجماعات الدينية المتشددة إلا بعد أن مهدت ويسرت لها الأنظمة السياسية القيام بذلك.
لا أحد يصدق أن ما كنا عليه يمكن أن يؤدي إلى ما انتهينا إليه
الجدات أكثر تحضرا من حفيداتهن بعد ان أسدل الحجاب الستار على مرحلة الانفتاح على العالم
الأنظمة القمعية فرضت على الناس شعورا عميقا بالخوف الذي يلتصق بالنفس ولا يفارقها

يتأمل الشباب صورا تعود إلى اربعينات وخمسينات وستينات القرن العشرين ويدهشون للمشهد المدني المتقدم في حداثته الذي كانت تتمتع به المجتمعات العربية.

صورة واحدة يظهر فيها جمهور المستمعين في احدى حفلات السيدة أم كلثوم كافية للتصريح بالمستوى الرفيع للذوق والاناقة ناهيك عن حضور المرأة البارز في مجتمع العاصمة المصرية الذي صار الذكور فيه اليوم يتعاملون مع الاناث كما لو أنهن فرائس متاحة في الشوارع.

لقد أسدل غطاء رأس المرأة الستار على مرحلة الانفتاح على العالم. وكما هو معروف فإن وضع المرأة يعد مقياسا ثابتا لنوع علاقة المجتمعات بعناصر وجودها من كرامة وحرية واستقلال. كما يمكنك من خلاله الحكم على مستوى تحضر المجتمع.

تفضح الصور حقيقة أن الجدات أكثر تحضرا من حفيداتهن. لكن الفضيحة هنا ليست صناعة نسوية. تلك الحقيقة هي مجرد مرآة لما انتهت إليه المجتمعات العربية من حالة تخلف وانهيار للثقة بالنفس وعدوانية هي بمثابة تنفيس عن مواجهة غير متكافئة مع أنظمة قمعية فرضت على الناس شعورا عميقا بالخوف الذي يلتصق بالنفس ولا يفارقها من غير أن تكون هناك حاجة إلى أية رقابة.

لم يُفرض غطاءُ الرأس على النساء من قبل الجماعات الدينية المتشددة إلا بعد أن مهدت ويسرت لها الأنظمة السياسية القيام بذلك. علاقة تبدو على قدر كبير من الغرابة. لم يكن القذافي متدينا وكان يكره الجماعات الدينية ويحاربها غير أن صورة المرأة الليبية كانت قريبة من الصورة التي يرسمها خيال تلك الجماعات.

وبعدما كان الرئيس المصري جمال عبدالناصر يسخر علنا من القيود الاجتماعية التي تفكر في فرضها جماعة الاخوان المسلمين أعلن خليفته أنور السادات تبني الفكر المحافظ ضمن مشروع إعلان الحرب على الجماعات اليسارية التي وقفت على الضد من زيارته لإسرائيل. اما في العراق فإن الهزيمة التي نتجت عن كارثة احتلال الكويت دفعت الرئيس العراقي الراحل صدام حسين إلى أن يُصاب بهستيريا تدين هي ليست من شخصيته بحيث صار لا يُرضي غروره المنكسر سوى أن يبني أكبر مسجد في العالم.

وسط تلك الأجواء المتشنجة لم يكن سلوك جعفر النميري في السودان غريبا. كانت المنطقة كلها تتعرض لزلزال لم تتعامل معه الانظمة بطريقة ايجابية، بل استسلمت لأسوأ ما نتج عنه وهي تتصور أن التضحية بالمجتمعات ودفعها إلى مواقع ظلامية وطرق مسدودة سينجيها ويجعلها قادرة على استعادة أنفاسها والقفز على أخطائها من خلال النسيان.

تنظر الأجيال العربية الحالية إلى الصور القديمة التي تعود إلى العقود الثلاثة الاولى من النصف الثاني من القرن العشرين فترى نساء جميلات بثياب أنيقة شبيهة بثياب الاوروبيات في تلك المرحلة. ترى شوارع نظيفة وبنايات حديثة وأسواقا مترفة وأنظمة سير متقدمة ومستشفيات محاطة بالحدائق ومخازن لبيع الكتب والاسطوانات الموسيقية غاصة بالزبائن ودور سينما تعرض أحدث الأفلام العالمية ومسارح تفصح اعلاناتها عن عروض مسرحية رائعة وواجهات محلات تشير عناوينها إلى ترف المجتمع وبذخه وتطلعه إلى أن يكون جزءا من دورة الرقي العالمي بكل أشكاله.       

يغمض الشباب عيونهم على تلك الصور كما لو أنهم يرغبون في أن يخزنوا تلك الصور في أحلامهم. لا يصدق أحد أن ما كنا عليه يمكن أن يؤدي إلى ما انتهينا إليه. تلكم الجدات كن ملكات متواضعات اما الحفيدات فإنهن بالرغم من غرورهن لا تشكل قيمتهن في المجتمع سوى مجموعة أصفار على اليسار. مَن حفر الحفرة ومَن عمقها وكيف ومتى تم اخضاع المجتمعات لأجندات جماعات ظلامية وجدت في ما فعلته الأنظمة فرصة عظيمة لفرض حكمها من غير أن تحكم؟

يقول لك "لدينا مدارس خاصة ومستشفيات أهلية وأسواق لا يجرؤ الفقراء على الاقتراب منها ولدينا عمارات لا يسكنها سوى الأثرياء كما أن هناك شواطئ لا يؤمها سوى الموعودون بالرخاء اما ما ترونه من مشاهد لمراكز العواصم فإنها تعني مرتادوها من المواطنين الحفاة".

ذلك حديث يسعى إلى أن يهزم الحقيقة بواقع زائف. فالشباب ينظرون إلى الحياة الحقيقة باعتبارها ركاما من الصور التي صار تأملها يجلب مزيجا من الألم والحسرة والشعور العميق بالفقدان. ولكن ألا ينبغي لتلك الصور التي تنتمي إلى الحقيقة أن تحرض الشباب على أن يقلبوا الواقع لكي يكونوا مخلصين لحقيقة ما هم أهل له؟

يليق بالشباب العربي أن يكون على صلة بالعالم تتخطى حدود العالم الافتراضي. فالصور تكشف عن تلك الحقيقة الارضية قبل أن يكون هناك عالم افتراضي.  

لقد تراجع العالم العربي إلى الوراء عبر عقود من الهزيمة. فهل من فرصة لكي يتوقف متأملا أسباب انهياره؟