عامان على رحيل سمير غانم وإسدال المسرح ستاره على آخر أضوائه الثلاثة

غياب 'سَمّورة' عن عالمنا ترك فراغاً كبيراً لا يعوض، كان يملأه بروح كانت تشع فرحاً ومرحاً وإيجابية، وقبل كل هذا عبقرية، نعم عبقرية لها خصوصية، قد لا يتفهمها البعض أو لا يراها عبقرية وهو حر في ذلك، لكن هذا لن ينفي أنها عبقرية.

قبل عامين، وتحديداً في 20 مايو/حزيران، رحل عَنّا الفنان القدير سمير غانم متأثراً بإصابته بفايروس كورونا. وبرحيله أسدَل المسرح المصري والعربي سِتاره على ثالث وآخر أضواء فرقة "ثلاثي أضواء المسرح" الإستعراضية، التي أنارَت عالم الإستعراض، وملأت الدنيا وشَغلت الناس في سبعينات القرن الماضي بإستعراضاتها ومنلوجاتها المُمتعة الهادفة، بعد أن سبقه زميلاه ورفيقا دربه القديران الضيف أحمد وجورج سيدهم قبل سنوات. يومها رحل سَمّورة صائد ومُكتشف المَواهب، الذي إكتشف آثار الحكيم ومديحة كامل وفريدة سيف النصر وجيهان نصر. ويومها قال فطوطة "أكشن" على أخر مشهد من مشاهد رحلته الطويلة في عالم الفن، الذي كان مُبدعاً وخَلاقاً في العديد من مجالاته.  

مَن ينظر الى الراحل سمير غانم كمُمثل كوميدي فقط، لن يَتفهّم حَجم الحُزن الذي إرتبط بوفاته ولا يزال، ولن يَستوعب كثافة الحضور والتغطية التي رافقت تشييعه وجنازته. فهو كممثل كوميدي كان له حضوره المُميّز والإستثنائي بلا شك، لكنه في ذلك حاله كحال الكثير من أقرانه من رموز الكوميديا، والبعض ربما لا يتذكر له سوى مسرحية "المتزوجون"! رغم أنه قدم درزينة مسرحيات ناجحة، مثل "جحا يحكم المدينة" و"فارس وبني خيبان" و"أهلا يا دكتور" و"موعد مع الوزير" و"أنا لايص وأخويا هايص"، وغيرها كثير من المسرحيات التي ما زلنا نذكر بعض مواقفها المضحكة، ونستعيد إفيهاتها التي كان يُرددها الفنان الراحل.

 لكن المشكلة في هذه الحالة هي ليست في سمير غانم، بل في مَن ينظر اليه بهذه الطريقة، ويُصِر على تأطيره بهذه الصورة التي تَعَوّد أن لا يَراه سوى بها، لأن محيطه المجتمعي نقلها اليه، ورسّخها الإعلام الذي قولَبه فيها، وتقبّلَها هو دون النظر بدقة الى ما قدمه الراحل خلال مسيرة حافلة إمتدت لسِتة عقود. مثل هذا الشخص غالباً لا يعرف ماذا يعني ثلاثي أضواء المسرح! أو فوازير فطوطة! وقبل هذه وتلك، لا يعلم أن سَمّورة مُكتشف لمجموعة مِن المَع ممثلات السينما المصرية! سمير غانم كممثل كوميدي هو جزء من سمير غانم الفنان الشامل، وموهبته بالتمثيل نهَر من بين أنهُر عديدة، يَرفدها يَنبوع إبداعه الشامل، الذي تقِف خلفه عبقرية أساسها سُرعة بديهة غير عادية.

سُرعة بديهته إنعكست على طريقته في التمثيل، لذلك أسّس وكانت له مدرسته الخاصة المختلفة عن مدرسة فؤاد المهندس وعادل أمام مثلاً، اللتان ربما كانتا أكثر شهرة من مدرسته، إلا أنه مدرسته تركت أثراً لن يُنسى في عالم المسرح تحديداً، وفي قلوب ملاين المشاهين في مصر وكل العالم العربي. هي كأسلوب تتبع مدرسة عالمية معروفة تُسَمّى "دي لارتي" تعتمد القفشات الإرتجالية بأكثر الأحيان!

لذلك يمكن إعتبار الفنان الراحل سمير غانم عَرّابها وأستاذها في العالم العربي، وأفضل مَن قدّمها وعَبّر عنها في المسرح المصري. كان أداءه يعتمد على الإرتجال دون الإلتزام بنَص حَرفياً، مُستثمراً صوته وجسده بمحاكاة تُمَكنه من تحقيق تفاعل وتواصل، بينه وبين باقي الممثلين من جهة، وبينه وبين الجمهور من جهة أخرى. سرعة بديهته الإستثنائية هذه تجَلّت بأروع صورها في أحد مشاهد فيلم "البنات عايزة إيه"، الذي قام ببطولته مع النجم الراحل محمود عبد العزيز. فقد كان إيقونة الغناء الشعبي أحمد عدوية يؤدي دور شقي يقوم مع صِبيانه بمُلاحقتهما، وحين يظفر بهما يخاطبه سمير غانم:"عَم.عَم يا صاحب الجمال" بقصد إلهاءه ليتمكنا من الهرب، فيجيبه عدوية:"أرحمني أنا ليلي طال" ويُكمِل الى نهاية أغنيته الشهيرة"السَح الدَح بو". وقد صرح سَمّورة خلال مقابلة مع الإعلامي عمرو الليثي بأنه إرتجل هذا الحوار خلال تمثيل المشهد، حيث شاهد عدوية في دور كان يفترض أن يؤديه الراحل محمد رضا، فقرر أن يستغل الموقف لخِدمة المشهد الذي بات بفضله مِن أشهر مشاهد الفيلم، وأكثرها خلوداً في ذاكرة المشاهدين.

نظرته الثاقبة في إكتشاف المواهب، أيضاً لا يمكن تجاهلها أو إنكارها، فرغم أنه لم يكن مُخرجاً، أو مُتخصصاً بإكتشاف المواهب، إلا أنه كان صاحب نظرة فنية مِجهرية، تُمَثِّل جزئاً من عبقريته. فكل المواهب التي إكتشفها لم تكن عادية، بل إستثنائية لممثلات ترَكن بصمة في عالم السينما والتلفزيون. كذلك الحال بالنسبة للمواهب الرجالية التي تخرج الكثير منها من مدرسته المسرحية، ثم شقت طريقها في عالم التمثيل.

إستعراضياً، ربما هو الفنان الوحيد، ليس فقط على مستوى مصر، بل وكل العالم العربي، الذي نجح في هذا المجال بشكل فردي. صحيح كان هنالك الكثير من المواهب الإستعراضية التي ظهرت خلال ستينات وسبعينات وحتى ثمانينات القرن الماضي وعاصرته، ومنها زميلاه في فرقة ثلاثي أضواء المسرح جورج سيدهم والضيف أحمد، إلا أنهم نجحوا جماعياً. أما هو فقد نجح بتقديم وصلات فردية في بعض الأفلام كإستعراض "أنا وحيد إسمي وحيد بنافس الاستاذ فريد" مع الفنانة سهير رمزي في فيلم "أنا مش حرامية"، ثم توّجَها بباكورة أعماله وأكثرها خلوداً في عالم التلفزيون وفي قلوب محبيه، وهي "فوازير فطوطة"، التي قدّمَها لعدة سنوات بشكل متواصل وحَقّقت نجاحاً باهراً، والتي بالإضافة لفكرتها المُبتكرة مُتمَثِلة بشخصية فطوطة، التي أبدعها الراحل وقدمها بنفسه، لكن بهيئة مُصَغّرة، إلا أنها تمَيّزت بتقليده لشخصيات مختلفة من جميع أنحاء العالم، سياسيين وفنانين وعلماء ومطربين، ولا أزال أذكر تقليده المُمتع والمُبهِر لترافولتا وسيناترا.

لقد ترك غياب "سَمّورة" عن عالمنا فراغاً كبيراً لا يعوض، كان يملأه بروحه التي كانت تشع فرحاً ومرحاً وإيجابية، وقبل كل هذا عبقرية. نعم عبقرية لها خصوصية، قد لا يتفهمها البعض أو لا يراها عبقرية، وهو حر في ذلك، لكن هذا لن ينفي أنها عبقرية. أغنية "أوخي" الفانتازية مثلاً، التي طرحت إبنته دنيا، عبر قناتها في اليوتيوب قبل أشهر، نسخة جديدة منها بصوتها، قامت بتركيبها مع لقطات لوالدها مِن الأغنية الأصلية، وَجّهَت في ختامها رسالة إليه تهنئه فيها إفتراضياً بعيد ميلاده، والتي تفيض فرَحاً ومَرَحاً وإيجابية كصاحبها، نموذج على هذه العبقرية. فخلال فترة الثمانينيات، طرح الراحل فيديو كاسيت منوّعات مَليء بإستعراضات كوميدية ضاحكة ومنلوجات، كانت هذه الأغنية إحداها وأشهرها. فيها يغني الراحل أغنية يفترض أنها يونانية، من خياله الخصب الذي لا حدود له، إسماها "أوخي"، وهي فعلاً كذلك بلحنها، الذي وضعه سمير حبيب بوحي من فانتازيات سَمّورة، أما كلماتها فخليط من الكلمات اليونانية والعربية، وكلمات لا معنى لها رَكّبها الراحل بطريقة لا يَعلم سِرّها غيره، أثمَرت هذا العمل الذي لا يُنسى، الفريد من نوعه لأنه يُمتِعك ويَبعث فيك روح المَرَح السعادة، عَمل لا يَقدِر عليه سوى فنان واحد فوق العادة وعبقري، إسمه سمير غانم.

في التلفزيون، كما السينما، لم يكن "سَمّورة" بالهَيّن، فقد ترك فيهما بصمة مهمة، عِبر أدوار متميزة في أعمال بات بعضها اليوم من كلاسيكيات الدراما المصرية، مثل مسلسل "حكاية ميزو" أو "البحث عن السعادة" أو "دعوني أعيش" الذي قدّم فيه دوراً درامياً مرسوماً بإتقان، على غرار دوره في فيلم "حل يرضي جميع الأطراف"، كلاهما مع الأسطورة سناء جميل، وبالتأكيد لا يمكن لمَن يَحظى بالوقوف أمام سناء جميل في أكثر من عمل، إلا أن يكون مُمَثل مُتمَكن.

لن تنسى سمير غانم، لأنك لا يمكن أن تنسى فطوطة أو "سو سو سو لا لا لي" أو "أنا وحيد إسمي وحيد وبنافس الأستاذ فريد" أو "أوخي" أو "أولّة حبنا". سِفر سمير غانم صندوق أشبه بصندوق الدنيا، التي أسمى إبنته على إسمها، وترك فيها أثراً لا يُمحى، قد تجد فيه بعض الأمور البسيطة التي ليست لها قيمة كبيرة، لكنها لا شيء أمام النفائس التي تملأه، والتي سَتَجِدها بكل تأكيد لو بحثت جيداً، وبهدوء وبدون رأي مسبق، بين زوايا هذا الصندوق.