عبث بلقيس الغنائي


لماذا تتنازل بلقيس عن وعيها الموسيقي حد "الخيانة" وتتورط في ثنائية مع صوت لا يصلح للغناء أصلا؟
امتلكت بلقيس مواصفات لم يمتلكها أي مغنّ عربي من قبل، فلماذا تفرّط فيها وتخون سريرتها الفنية بالانقياد الغنائي الأعمى للسائد والمشاركة في عبث غنائي.

أبهرتني تعبيرية الفنانة اليمنية بلقيس عندما استمعت إليها للمرة الأولى قبل سنوات. كان أداؤها ينمّ عن وعي موسيقي متصاعد خضع للدربة والمران الغنائيين، لذلك أضحت أكثر من كونها مجرد مطربة. ويمكن أن نعزو ذلك إلى فضل التربية الفنية لوالدها الموسيقار اليمني أحمد فتحي.

لم تكتف الفنانة اليمنية بموهبتها وجمالية صوتها، بل نمّت ذلك بوعيها الموسيقي الذي كان محرّضا على خيارات فنية ترقى بالذائقة السمعية.

فقدرة بلقيس على إتقان نطق اللهجات العربية مذهلة وكأنها تربت عليها منذ صغرها، تماما بمستوى إتقانها الغناء بأكثر من لغة، من بينها الإنجليزية والفرنسية.

هذه مواصفات تجعل من المطرب قادرا على إيصال العمق التعبيري المُلحّن للمفردة وعدم الاكتفاء بمجرد نطق آليتها.

لذلك أقول إن ما تمتلكه بلقيس من موهبة وتربية موسيقية وإتقان لأكثر من لغة ومعرفة عميقة للهجات العربية، يجعلها مثار إبهار لمن يستمع إليها عندما تغني بالعربي أو الفرنسي.

فهي المشرقية عندما تغني لمسامع أبناء المغرب العربي، تطوف بهم وتجعلهم يذوبون ولها مستذكرين التونسي الهادي الجويني أو المغربي عبدالوهاب الدوكالي أو الليبي محمد حسن. كذلك حافظت بلقيس على حسها المشرقي وأتقنت الدرس الموسيقي جيدا فأحبها اليمني والخليجي والعراقي كما أحبها السوري واللبناني.

امتلكت بلقيس مواصفات لم يمتلكها أي مغنّ عربي من قبل بما فيها الأدواء الاوبرالي، فلماذا تفرّط فيها وتخون سريرتها الفنية بالانقياد الغنائي الأعمى للسائد والمشاركة في عبث غنائي.

بالأمس استمعت إلى “أغنية” مشتركة لبلقيس مع “المطرب” العراقي سيف نبيل “من حسن حظي لم أستمع إليه من قبل”. ومع أن هذه الأغنية التي تحمل اسم “ممكن” استقطبت الملايين على يوتيوب في لعبة عددية رقمية لا علاقة لها بالقيمة الفنية، إلا أنها تعبّر بامتياز عن الانهيار الغنائي الباعث على تدمير الذائقة السمعية وكسر الحاجة الحسية للغناء بوصفه مؤرخا ومعبرا عميقا عن كوامن إنسانية.

لذلك من السهولة بمكان الحكم على سيف نبيل ملحّن “ممكن” بالأمّية في علوم الغناء، وجهل “شاعرها” سيف الفارس لدلالة معنى أن يكون شاعرا. تضاف إلى ذلك الكوميديا السوداء في وجود عمر صباغ موزعا موسيقيا في “أغنية” لا تمت بصلة إلى الموسيقى!

النص عبارة عن جمل قصيرة ركيكة لا تعبّر عن أيّ شيء ولا تبعث الإيحاء في خيال المستمع، ولا يمكن توظيفها في مفهوم أغنية. مجموعة من الكلمات العاجزة عن التوجه إلى المسامع، فكيف لها أن تمسّ شغاف القلوب!

لا يوجد مفهوم لحن في هذه “الأغنية” فسيف يصرخ في صوت لا يصلح للغناء أصلا، وهو أقرب إلى صياح المراثي والمناداة، بينما تقابله بلقيس بصوتها الناعم وكأنها تتكلم دون أيّ حسّ تعبيري بالغناء، و”تخون” في ذلك صوتها الجميل. كذلك تنتهي هذه الثنائية بكلام لا غناء فيه.

ثنائية صراخ سيف ورد بلقيس عليه لا تتوجه إلى المسامع بقدر ما تركز على مشاهد الفيديو السريعة التي تشغل العين، بينما يفترض بالأذن أن تسمع، عذرا أيها الغناء!

لم يفكرا الاثنان في أيّ دلالة فنية يمكن أن يقدمها هذا التضاد الصوتي في التقابل المتمثل في صراخ سيف ونعومة صوت بلقيس. فعن أيّ حبّ يمكن أن يكون الصراخ معبرا وبمفردات ركيكة؟

بالنسبة إليّ عندما يتعلق الأمر ببلقيس التي أحببت غناءها، الأمر عصيّ على التفسير، إلا إذا تذرعنا بأمور متعلقة بالسوق والخضوع إلى الثقافة الواطئة، أو بحاجة أنانية مرتبطة بالمال مثلا. وهو أمر مستبعد إلى حد ما، فلدى بلقيس ما يجعلها سعيدة بغير ذلك.

فلماذا إذن تتنازل عن وعيها الموسيقي حد “الخيانة” وتتورط في ثنائية مع صوت لا يصلح للغناء أصلا؟