عبدالله جعيلان ينكأ الجراح بـ'رقص القدم الثالثة'

القدم الثالثة قد تعني عصا يتوكأ عليها المعوقون من ضحايا العنف والحروب، فهي ترقص على عذاباتها، ساخرةً من هذا الجحيم الذي اجتاح الناس، متمثلا بحالة التشظي التي أصابت المجتمع، وجعلته شعوبا وقبائلَ.

تحتوي مجموعة "رقص القدم الثالثة" القصصية للكاتب العراقي عبدالله جعيلان على حشدٍ من القصص القصيرة والقصيرة جدا، وقد صدرت هذا العام 2023عن دار نورسين للطباعة والنشر والتوزيع.

تتحوّل القصة عند الكاتب إلى بَوْح ضد شراسة الواقع، وورقة احتجاج بوجه اختلال القِيَم، هذا ما تلمسه وأنت تقرأ المجموعة القصصية (رقص القدم الثالثة)، وقد اختار الكاتب عنوانه من خارج نصوصه، فليس من قصصه الست والثلاثين التي تضمها قصة تحمل هذا الاسم، مما يوحي بأنه أراد أن بجعل المجموعة كاملةً تحت سقف فكرة واحدة.

وإذا افترضنا أن الكاتب يعلّب أفكاره بأغلفة مختلفة من الرمز، فإن العنوان بحد ذاته ما هو إلا إحالة لتفسيرات عديدة، ومنها شحن الرقص الذي يعبر عن الفرح والترف بنقيضه الذي يدلّ على أقصى حالات الشجن، من خلال لا عقلانية القدمالثالثة.

لقد اشتهر الإسبان برقصة الفلامنغو بواسطة الأقدام التي تدك الأرض، لِتظهر أنغاما متناسقة تتشح بالحزن والاحتجاج على قسوة الواقع التاريخي الذي تعرض له المورسكيون الذين أُبيدوا وشردوا من ديارهم، تلاحقهم محاكم التفتيش، فكانت حركات أقدامهم وهي تضرب الأرض تعبيرا عن حجم الفاجعة التي تعرضوا لها، ولكن القدم الثالثة قد تعني العصا التي يتوكأ عليها المعوقون من ضحايا العنف والحروب، فهي ترقص على عذاباتها، ساخرةً من هذا الجحيم الذي اجتاح الناس  متمثلا بحالة التشظي التي أصابت المجتمع، وجعلته شعوبا وقبائلَ.

  وقد جاءت قصص عبد الله جعيلان متماهية مع هذا التصوّر، حيث الرقص على عذابات المرأة والطفل ومعوقي الإرهاب والمعدمين من الناس، وحيث الطفولة التي كانت الضحية الأكبر لدفع ضريبة الاحتراب المذهبيوالذي أدى بدوره إلى الشرخ الاجتماعي الذي شرذم النسيج العراقي وجعله متمترسا بالعشيرة والملة بدلا من الوطن. لقد كان الغزو الذي أطاح بالنظام، لم يستهدف الدكتاتورية بحد ذاتها، بل أطاح بتركيبة المجتمع، وجعل الناس فريسة فوضى الغابة،فانطلقتالوحشية البشرية من كهوف ظلمة التاريخ،في محاولة لإبادة الآخر والرقص على عذاباته، لذلك تأتي القصص حاملة هذا الواقع الجديد،وكأن كلّ قصة تتحول إلى لوحة مشبعة بألوان الكراهية والحقد والقسوة.

   ففي قصته "الحذاء الماروني" يتناول حالة حادة من الشظف لعائلة عراقية تتكون من أم لطفلين وأب عاطل عن العمل، بحيث أن الطفلينلا يمتلكان سوى حذاء ماروني قديم، يتبادلان ارتدائه،ولكنّ أمهما لا تمتلك سوى الدعاء، مما يستدعي الدهشة لدى الطفلين اللذين تساءلا عن جدوى هذا الدعاء، ولماذا تستجيب له السماء أو تغفله، مقارنين بيت سكنهم المهترئبالبيوت الفارهة لجيرانهم، وخائفين من مطالبات مالك ذلك البيت والذي يهددهم بالطرد، إذا لم تدفع العائلة الإيجار الشهري، بينما تتوسل الأم بإذلال لهذا المالك،مما يذكر الطفلين بنفس الابتهال الذي تؤديه أثناء صلاتها ، ولكن القصة تصل ألى ذروة المأساة حينما يُقذف كيس بلاستيكي على عتبة دارهم المستأجرة، يحمل جثة الأب مقطوعة الرأس، مما يجعل الطفلة مريم تصرخ بأمها " خيّطي رأس أبي كي نستعيد سعادتنا" إنها الصرخة المفجوعة التي ترى أقصى حالات السعادة في أن يعود الأب إلى بيته ورأسه غير مقطوع !

   لقد صوّر الكاتب قصصيّاً مشهد العنف المذهبي الذي مزّق النسيج الاجتماعي، ولكن بعيون الأطفالالبريئة والعاجزة عن الفعل، وضمن أجواء ضبابية لانفلات العنف وعجز الدولة عن كبح جماحه.

في قصة "حي التنك" نجد مشهدا آخر، يُفصح عن حجم الرعب الذي تثيره بعض المجاميع المنفلتة والتي تطارد شابا، لأنه سرق سجادة صلاة قائدهم، ولكن الشاب يختفي في تنور أحد البيوت، وحينما تأتي الشابة لرفع غطاء التنور كي تخبز، يتوسل إليها أن لا تصرخ كي لاتكتشفه تلك المجاميع، ويوصيها أن ترسل ما سرق إلى إهله لبيعه وأكل لقمة خبزهم منه، لكنهم يكتشفونه ويحاكمونه بقطع أصابع اليد.

  الكاتب يستعير من خشونة الواقع واختلال قِيَمه أغلب مواد قصصه،ليُظهر لناالسخريةالسوداء التي التقطها من التناقضات الصارخة التي نتجت عن فوضى غياب الدولة، وظهور عصابات ارتدت جُبة الدين كي تبتز الشرائح  الهشة، ومنهم بطل هذه القصة،حيث يضعنا الكاتب أيضا بين معادلتي الجمال والطيبة متمثلا بالشابة التي تسترت على اختفائه في التنور، بينما المرأة الأخرى التي شبهها بالبشعة لم تتعاطف معه، بل وشته لعصابة "القائد".

نحن هنا إزاء قصة تصلح كلافتة ضد شريعة الغاب التي تنتهجها أحزاب السلطة في العراق، ومن هنا يبرز مفهوم الالتزامفي الكتابة الذي انتهجه الكاتب الشاب عبد الله جعيلان الذي جعل من القصة سبيلا للدفاع عن نسيج اجتماعي عريض وجد نفسه على قارعة الإملاق، فأغلب شخوص قصصه يتعرضون للانتهاك،ومنهم تلك الفتيات القاصرات اللواتي يتعرضن للابتزاز أو الاغتصاب، أو الرجال الطاعنون في السن والذين يُرفضون من قبل أرباب العمل فيتقيّئون عظامهم، حسب تعبير الكاتب في قصة تحمل هذا العنوان.

 لقد تناولت قصةٌ أخرى العلاقة بين الكاتب وأبطال قصصه من خلال تقنية الاندماج أو الاتحاد المطلق بينهم، بحيث أن الشخوص تتحرك داخل الفعل القصصي، وتفعل ما يحلو لها،وكأنها تُعلن انتحار المؤلف، وتجعله في حالة من الغياب التام. وكأننا إزاء حالات حادة يعجز القَصُّ أن يحيط بأبعادها.

 كما أنّ الموت أصبح المهيمن على الأجواء القصصية، هذا الموت الذي يترصد المجتمع، قد يأتي على هيئة عبوة ناسفة، أو رصاصة غادرة من خلال الانفلات في حمل السلاح، أو رصاصة موجهة من قِبَل الأحزاب والميليشيات،أو مِدْية حادة تحز رقاب المتعبين والضعفاء والذين يبحثون عن رزقهم اليومي، مما يثير حالات حادة من القلق والحزن والإحباط في صفوف هؤلاء الذين وجدناهم بين السطور، الشيخوخة غير القادرة على تلبية متطلبات الحياة بسبب وهن الجسد واشتعال الرأس شيبا، أو امرأة الشهيد التي لا تمتلك الا متاعب الذاكرة، أو الأطفال الذين أُحرقت مرحلة طفولتهم، فانهمكوا في البحث عما يسد الرمق في مزابل المتخمين الذين بنوا ثرواتهم الطائلة على حساب بؤس الضحايا.

ورغم كثرة المواضيع التي تناولتها المجموعة في هذا العدد الكبير من القصص، ولكنها في مجملها ضمن مُناخرفض تلك الحالات الشاذة، والانتصار للضحيةبوجه جلادها من خلال عملية الكشف، ولكنّ هذا الانهماكفي المضامين الهادفة والملتزمة جعل بعض القصص تسقط في شِباك الأسلوب المباشر الذي ينأى عن جماليات النص، فكانت بعضنصوصه شرسة وحادة ومباشرة وصادمة للقارئ. من خلال التصوير الفوتغرافي بدون مواربة أو تمويه، وفي نفس الوقت تأتي نصوص أخرى وهي زاخرة بإمكانات فنية عالية، تجعل القارئ منجذبا تجاهها، وكأنه يجد نفسه بين ثنايا سطورها.