عشرون سنة من الزمن العراقي تضيع هباء

النظام السياسي في العراق كان ولا يزال وليد التسوية بين الولايات المتحدة وإيران، الطرفين المختلفين في كل شيء إلا فيما يتعلق بالعراق.

هل سيدفع العراق ثمن انحسار النفوذ الإيراني في المنطقة؟ ليس ذلك السؤال سابقا لأوانه بعد أن استقبل العراق لبنانيين أثناء الحرب الأخيرة مرحبا بإقامتهم في العراق وبعدها جاء إعلان وزير الداخلية العراقي عن وجود اعداد من الجنود السوريين كانوا قد فروا إلى أراضيه أثناء زحف المعارضة السورية وبعد سقوط نظام بشار الأسد وقد خيرهم العراق بين البقاء أو الرجوع إلى وطنهم.

إلى وقت قريب كانت الحكومة العراقية تنأى بنفسها عما تقوم به الميليشيات الموالية لإيران إنسجاما مع شعار وحدة الساحات الذي رفعته إيران وجعلت منه خيطا يصل بين الميليشيات العاملة تحت أمرتها تجسيدا لنوع من المقاومة كان يُدار من قبل الحرس الثوري الإيراني. وما كان للبنان أن يكون هدفا للحرب الشاملة التي شنتها إسرائيل لولا وقوعه في مهب حرب إيران بالوكالة.

لقد حاولت الحكومة العراقية أن تبدو كما لو أنها ليست خاضعة للإملاءات الإيرانية مثلما هي الميليشيات التي قامت بتنفيذ عمليات قصف استهدف الأراضي الفلسطينية المحتلة وكان الهدف منها توسيع دائرة الحرب وهو ما فعله الحوثيون في اليمن. لم تعترف الحكومة العراقية وهي تسعى إلى تبرئة ساحتها بأنها غير قادرة على ضبط نشاط الميليشيات وأن تلك الميليشيات لا تخضع لنفوذها.

حين تقدمت إسرائيل بشكوى ضد العراق في مجلس الأمن فإنها لم تنظر بطريقة جادة إلى تلك المحاولات، بل اعتبرتها نوعا من التضليل والخداع وهو ما تفهمه المجلس حين دعم حق إسرائيل في الرد. يومها صمتت الحكومة العراقية ولم يصدر عنها أي رد فعل. فمن الصعب عليها أن تعترف أن أراضيها مخترقة وأن الميليشيات التي تعمل على تلك الأراضي ما هي إلا قواعد إيرانية أمامية.

وبغض النظر عما تقوله الحكومة العراقية في تفسير إشكالية العلاقة بإيران فإن ما لا يمكن إنكاره أن التحالف الحاكم وهو "الإطار التنسيقي" انما يتألف من مجموعة الأحزاب والميليشيات الإيرانية الموالية لإيران والتي تتطابق مواقفها مع الموقف الإيراني في إطار الحرب الدائمة التي هي التجسيد العملي لمبدأ تصدير الثورة الذي جعل منه الخميني أسلوب حياة وهدفا لجمهوريته الإسلامية. كل الأحزاب والميليشيات المتحالفة في "الإطار التنسيقي" تؤمن بخط الإمام. وهو ما يعني أن العراق يُحكم من قبل فئة تؤمن بحق إيران في التمدد وهو الحق الذي يتم تفسيره عن طريق التمسك بالدفاع عن المذهب ووحدته.

لقد منحت الحكومات الديمقراطية في الولايات المتحدة العراق استثناء من العقوبات المفروضة على إيران بحيث أنه كان عبر سنوات طويلة المصدر الرئيس للعملة الصعبة التي انقذت الإقتصاد الإيراني من الإنهيار. كان استيراد الغاز الإيراني من أجل استعماله في توليد الطاقة الكهربائية في العراق واحدة من أكبر الأكاذيب التي تم من خلالها تزويد إيران بمليارات الدولارات في ظل عقوبات أميركية متشددة.

كان هناك تواطؤ أميركي إيراني ضحيته العراق. ولكنها الضحية لتي تُقاد إلى الذبح بمشيئتها. ذلك لأن النظام السياسي في العراق كان ولا يزال وليد التسوية بين الطرفين المختلفين في كل شيء إلا فيما يتعلق بالعراق، فهما متفقان على كل شيء أو كانا كذلك قبل أن تفرض إسرائيل معادلات سياسية في المنطقة بعدما حدث في السابع من أكتوبر عام 2023. 

لو بقي الأمر رهين المشيئة الأميركية لما تحرر لبنان واستعاد دولته الحرة المستقلة ولما سقط نظام بشار الأسد في سوريا. إسرائيل بعد أن تعرضت لتهديد وجودي استفز مواطنيها هي التي أملت على الولايات المتحدة خيار تغيير سياستها المتواطئة مع المشروع الإيراني التوسعي في المنطقة وهي التي وضعت على الطاولة الأميركية سيناريو مناسب لها لشرق أوسط جديد لن تحكمه إيران.

فقدت إيران تاج مشروعها في لبنان ولم يعد في إمكانها أن تجسد آمالها في العودة إليه بعد أن أُغلقت في وجهها الأراضي السورية. ذلك يعني أن نضالا استغرق أكثر من أربعين سنة وهُدرت من أجله المليارات وراح ضحيته الكثير من جنرالات الحرس الثوري وفي مقدمتهم قاسم سليماني صار بمثابة ذكرى لا يمكن استعادتها إلا من أجل استدرار الدموع. ولأن اليمن بعيدة ولها معادلاتها الخاصة لم يبق لإيران إلا العراق.

ولكن العراق هدية أميركية.

لم تتمكن إيران من الهيمنة على العراق إلا بموافقة أميركية. ما كان في إمكان الميليشيات المالية لإيران أن تبسط سيطرتها على الأراضي العراقية لولا أن سلطة الاحتلال الأميركي سمحت لها بذلك. كان ذلك كله جزءا من مشروع تدمير العراق.

اليوم بعد أن انتهى العراق إيرانيا صار في إمكان الولايات المتحدة أن تسحب هديتها مضطرة. ولكن السؤال الذي ينطوي على السخرية هو "ما الذي يتبقى من العملية السياسية التي أقامتها الولايات الأميركية في العراق إذا ما تم إنهاء نفوذ الأحزاب والميليشيات الموالية لإيران؟ لا سيء طبعا. وهو ما يعني أن أكثر من عشرين سنة ضاعت هباء من الزمن العراقي.