عصام حمدي ومحاولات الغوص في الذات

الفنان التشكيلي يعكس في تجربته مسارا تأمليا يغوص فيه في ذاته باحثًا عن جوهر التعبير الجمالي من خلال سرد بصري يمزج بين الذاكرة والهم الإنساني متجاوزا الحدود الشكلية نحو تأويلات مفتوحة.

أغوص في ذاتي، وأكتشف قدراتي، كالناسك الذي يمشي حافياً على الجمر دون احتراق"، بهذه الكلمات لخص الفنان التشكيلي عصام حمدي حالته في أحد معارضه (غوتيه - المركز الثقافي الألماني دمشق 2010)، وما بين أعمال هذا المعرض وأعماله الحالية قرابة عميقة، وتحمل الكثير من كلماته تلك، فهو ما يزال يغوص في ذاته علّه يكتشف قدراته، بروح تحريك السرد حيناً، وبفعل التغيير حيناً آخر، فهو يصنع من تحريكه خيوط الضوء للإحالة إلى العديد من إشارات العصر، كتقاطع أسئلته مع تمفصلات بحثه المأخوذ إلى حدود الذوبان في مشروع تجربته، وكذلك يصنع من تغييره مخيلة تلامس هموم الذات، بما فيها تلك المنسية.

فعصام، وهو ذاك الأخ الصغير لعمر حمدي "مالفا"، والذي كان يجمع له شفرات الحلاقة القديمة ليرسم بها وجوه والديه ووجوه الحصادين ورعاة الغنم، حسب تعبير مالفا ذاته، فعصام هو ذاك الطفل الذي استغرق في جلّ مشاهداته تفاصيل مرحلة لفنان كان يولد، ولهذا ليس غريباً عليه أن يخوض التجربة بذاته، وبكمّ هائل من التساؤلات، جميعها تتزاحم في ذهنه، تترجم فيما بعد على لوحته.

فحمدي حريص على الحضور، الذي يتطلب منه الجرأة والتمكن معاً، وهذا يدفعه إلى التوغل في فضاءات عمله دون أي حرج، بل باستخدام وسائل تعبيرية، يجعل لموقعه وانشغاله الحيز الذي يعوم فيه بأريحية الدليل، في موقع يتقن لغته تماماً، مكانة فيها قد يحق له ممارسة بعض العبث مع مفرداته، ولهذا ينبغي عليه أن ينطلق في تحديد مكونات سرده الجمالي، بوصفها طريقته في تقديم المتن إلى متلقٍّ مفترض على الأرجح.

وهل هذا الكم الفائض من الانكسارات الحاضرة بقوة الوجع في خطابه التشكيلي، بتداخلها وتكاملها، إلا شكل آخر من الأشكال التي يرغب عصام إظهارها للقارئ / للمتلقي، كحصاد وفير من عملية بحثه في ذاته؟ فالمسألة البحثية عنده قائمة بالمعنى الإبداعي، لا بالمعنى الحدودي، أي ترك المتخيل ينتقل من موقع إلى آخر، دون الالتفات إلى أي جانب قد يلجم تنقله هذا، حتى إنه قد يذوب في هذا المتخيل حتى ينتقل إلى آفاق أوسع.

فهو يبدأ بخلق رديف للقيمة الشكلية، من باب ربطه بشكل تابع لكل محاولاته الحاضنة لتجربته، للحاق بسياق جماليات الخلق، لا بفعله، مع بث مفرداته الفنية لتبيان كيفية الوصول إلى لغة خاصة به، يمارسها هو ومتلقيه، وهذا يعطيه الإحساس بالغربة والبعد عن المنجز السائد.

وكان السؤال الذي يرافقه على نحو ما هو: لماذا محاولات الغوص في الذات تتخذ أحياناً أشكالاً غير مجدية؟ هل لأن القيم الكونية الإنسانية النبيلة، وبمعناها الفلسفي والقيمي، باتت هي الأخرى غير مجدية الحضور؟ أم أن الاستعانة بعلامات التقطيع كأداة لتخزين المعرفة الجمالية ونقلها، تمهيداً لخلق دلالات خفية، هي التي غير مجدية؟

تتميز تجربة حمدي بالقدرة على التواصل والتأويل، من خلال خطاب مشتق من النوتات الداخلية لعناصر العمل، فأشياؤه، بإيقاعاتها، تتوزع بالضرورة عبر تحديد عناصر التدليل لديه، وبالتالي يساعد ذلك كل من المتلقي والقارئ على الوصول إلى وقائع ضمن سيرورة التدليل ذاتها، والوصول إلى لغة تشرح نمط اشتغاله وطرق إنتاج مجمل الأنساق المكونة لتجربته.

فتجربته تكشف عن نفسها، سواء في بلورتها للممارسة الإنسانية ضمن لغتها البالغة التنوع، أو في تعبيريته التجريدية، التي تمنحه سيلاً من الدلالات، التي تُعد بدورها أساس القراءة لوقائعه، التي تحمل دلالاتها في ذاتها، وخزاناً لعناصره الفاعلة في الكشف والبناء معاً، واستناداً إلى ذلك، تقوده مفرداته نحو فعل قابل أن يُصاغ في كل الامتدادات.