'عمُّهم' أو كيف تغيرت قصة البطل الشعبي

بعد أن كان البطل قوته في عقله صارت قوته في جسده وعضلاته وبعد أن كان البطل الهمام يقف في مواجهة الظلم وهدفه الأصيل تحقيق العدالة صار يقف في وجه الظروف مادية يقابلها في المجتمع وهدفه الوحيد هو كسب الأموال لحل مشكلته.

فيلم "عمُّهم" عمل تجاري مصري طرح في العيد 2022، ليحقق بعض الأرباح لصناعه. دون أي هدف وراء هذه الأرباح. فيلم قديم جدًّا حيث يلتف حول شخصية البطل الغلبان الذي يصارع الظروف من حوله، وهو ابن البلد البسيط المقهور من ضربات الحياة القاسية عليه. فيلم فارغ جدًّا ليس فيه أي أحداث "فيلمية"، بل يسير على الخطة الشعبية المعروفة في أننا نعرف بطل الفيلم الممثل الحقيقي، ثم نقيم من حوله البناء كله بالاستعانة بالممثلين الذين سيملئون الشريط معه، وصولًا للحظة النهاية.

لم تفتأ السينما الشعبية أو السينما التقليدية التي تُقدم لطبقات الشعب الجارفة أن تنحو نحو هذه الخلطة، وأن تتبع مثل هذه الخطوات. ولم تفتأ الشعوب "المقهورة حقيقةً" تُقبل على هذه التجارب السينمائية تمارس فيها جزءًا من وهم البطولة الحقيقي في نفوسها الدفينة، والزائف على تلك الشاشة الزائفة. وتتفاعل مع بطلها الشعبي الذي كان عادل إمام في السابق، والآن صار ابنه؛ لتصفق لصورة لها ترجوها من الحياة. لكنها أبدًا لا تنالها؛ فما يحدث أنهم يظلون على حالهم لا يتغيرون، ويظل البطل الشعبي الزائف على الشاشة يحصد هو الأموال مشاركةً مع صناع تلك التجارب الزائفة.

قصة فيلم "عمهم"

سلطان (محمد إمام) شاب فقير يعاني مرارة الحياة التي يحاول التغلب عليها بالعمل طاهيًا تارةً، والعمل في مجال الملاكمة لتقديم مبارايات غير رسمية (تلك التي نراها في الأفلام الأجنبية) لينال فتات الحياة. يعيش مع صديقه سعيد (محمد سلَّام) الذي يعشق المخدرات من كافة أنواعها، وفاشل بوجه عام. ويتدرب مع مدربه الموهوم بالمستقبل الباهر (محمد لطفي).

وفي أحد الأيام يتورط سلطان في عراك، يتعرَّف فيه على تاجر آثار وتزييف عملة الذي يُعرَف بالحاجّ (سيد رجب)؛ الذي يدخله في صراعه مع البارون (رياض الخولي). والصراع دائر حول مطبعة تطبع دولارات مزوَّرة فائقة الجودة. ويغذي هذا الصراع الدائر العلاقة المتوترة بين البطل سلطان و مروان ابن الحاج (أحمد خالد صالح)، وعلاقة الحب الناشئة بين البطل وبين غالية ابنة الحاج (هدى المفتي).

كيف بني الفيلم؟

على أُطُر غاية في الاستهلاك بنى المؤلف وسام صبري فيلمه. خليط من البطل الشعبي وملاحمه القديمة؛ وهذا العماد له تاريخ طويل في التراث الشعبي العربي (علي الزبيق مثلًا). لكنه في السينما الحالية تقزَّم بصورة لا يمكن تصورها ليؤدي دورًا تجاريًا محضًا، لا علاقة له بالأصل في الاعتماد على البطل الشعبي. ووضع توليفة من الكوميديا على يد شخصيتَيْ سعيد والمدرب، غير شخصية البطل وبعض الشخصيات الثانوية، ثم أضاف المغامرة عن طريق خط الأحداث الرئيس للصراع بين شخصيتَيْ البارون والحاج، ثم أضاف بعض التحفيز عن طريق الحقد النامي في قلب مروان ابن الحاج تجاه البطل، ثم أضاف حافزًا آخر هو علاقة الحب بين البطل وبين غالية ابنة الحاج.

خلطة مضمونة النجاح. لكن الفيلم مفكك وضائع وحائر. بنيته ليست بنية الفيلم الذي يتكون من مشاهد مفيدة في بناء الفيلم، بل كأننا -وهذا ما يحدث حقيقةً- خططنا صناعة فيلم أيًّا ما كان الموقف، ثم أخذنا نبحث له عن مشاهد تضيف ما نرجوه فيه. العلاقات متواضعة جدًّا بين الشخصيات، وتطور الأحداث مليء بالمفاجآت والقفزات، مع الكثير من المشاهد المجانية التي ليس لها أدنى مبرر ولا سبب (مشهد سير البطل وغالية بين ممر الكلاب مثال بسيط). غير المشاهد المقتبسة بالنص (مثل مشهد ظهور باسم سمرة لإخراج البطل من المستشفى. والغريب أنْ كان بإمكانه الوصول إليه دون إحداث تلك الضجة من خلال الزيارة الطبيعية لأي مريض).

هذه العيوب الكثيرة نالت من وحدة العمل، وأصابته بالضعف والهزال في بنائه، حتى ليكون أقرب فعلًا إلى المشاهد الموضوعة منه إلى الفيلم السينمائيّ. ولا أدري السرّ وراء عدم بذل المؤلفين العرب الجهد في سبيل صناعة فيلم جيد؛ حتى إن كان تجاريًّا. فالأفلام التجارية هي الكثرة الكثيرة في السينما العربية والعالمية. لكن الفارق أن صناعة الفيلم -عمومًا- لها أصول، يجب على صانعها الالتزام بها. وما يجعل الفيلم العربي أو العالميّ فيلمًا تجاريًا ناجحًا هو السير على هذه الأصول، وصناعة "بناء" فيلميّ. وهذا هو أصل العمل السينمائيّ الذي لا يوجد مبرر للحيدة عنه؛ إلا أن مَن يؤلف عندنا لا يصل إلى جهات الإنتاج، وجهات الإنتاج لها مَن يؤلفون لها ممن لهم علاقة بهم، أو غيره من عالم المصالح.

فيلم "عمهم" إخراجيًا

لا يختلف عمل المخرج حسين المنباوي عن عمل المؤلف. ويكفي أن نمر لمراجعة بعض مفاهيم الإخراج في العمل. فما مفهوم الإخراج الكوميدي في الفيلم؟ هي إقحام أكبر قدر من النكات إلى الحوار دون أي مبرر، وإدخال شخصيات عابرة (محمد أنور والرجل الصيني) للعبور وقتيًا بضحكات.

وما مفهوم الحركة (الأكشن) في الفيلم؟ هي صناعة مشهد لا مبرر له، ضارب في اللامعقول، مع قفزات مونتاجية هائلة لا تُرينا الأحداث، بل تحل المشكلات الصعبة للمخرج وحسب (مشهد البطل أمام الحاوية المتحركة التي تنقل المطبعة، ثم فجأةً نجده فوق هذه السيارة الهائلة بقفزة مونتاجية مفاجئة). وكذلك من مفاهيم الحركة في الفيلم صناعة عديد المشاهد المزيفة التي تكرِّس لنجومية الممثل البطل مهما كان الثمن (مثل أن تتعارك مع مجموعة منهم الشحات مبروك، ثم تخرج لتصدمك سيارة بأقصى سرعتها بقصد القتل، ثم تكون في اليوم التالي على أتم حال. ومثل القفز من مبنى المستشفى وقوعًا على دعامة خرسانية وإكمال المطاردة بكل لياقة). هذا غير ممثلي مشاهد الحركة الذين ينتظرون دورهم في الوقوع، والبطء عمومًا في تنفيذ المشهد لعدم لياقة المنفذين لها –بمن فيهم البطل-.

وما مفهوم الإثارة في الفيلم؟ صناعة موقف متأزم ثم الحل المفاجئ له (مشهد محاصرة البطل في الشارع والحل الذي أتاه فجأة)، أو تجاهل الحل تمامًا (الأصفاد في يد البطل في المستشفى التي حُلَّت من نفسها طواعيةً بالاتفاق مع المخرج. فضلًا عن أننا لا نعرف سببًا لوجودها ظاهرًا على الشاشة). غير الاستخدام الرديء للشاشة الخضراء التي لا تبقي أمام الأبطال أي عائق في أي مشهد.

القيمة الأخلاقية لفيلم "عمهم"

لقد تغير البطل الشعبي في العقود الأخيرة عمَّا كان من قبل. فبعد أن كان البطل قوته في عقله وفيما يصنع من حيل؛ صارت قوته في جسده وعضلاته التي تحرص الأفلام على إظهارها أكبر قدر من الوقت. وبعد أن كان البطل الهمام يقف في مواجهة الظلم وهدفه الأصيل تحقيق العدالة؛ صار هو البطل الذي يقف في وجه الظروف المادية التي يقابلها في المجتمع، وهدفه الوحيد هو كسب الأموال لحل مشكلته. فكما نلحظ بعد أن كان الهدف أخلاقيًّا، صار منفعيًّا؛ وبعد أن كان البطل ذا همّ جماعيّ صار ذا همّ فرديّ محض، لا علاقة له بالمجتمع.

وبعد أن كانت قصة البطل الشعبي تولِّد الأمل في نفوس الناس أنْ ستبزغ شمس العدالة، وأنها في مستطاعهم ويحققها واحد منهم؛ صارت تكرِّس السوادوية في النفوس وتدعو للخلاص الفردي وترك الجميع في الأتون المستعر. وفي الفيلم الجميع يفعلون الأخطاء ويظهر خط الأحداث وكأنه توفيق للبطل؛ فبالتوفيق صار ناجحًا في تزوير العملة وفي الاستعانة بالمجرمين وفي المزيد من المستقبل الإجرامي الذي ينتظره، وينتظر مراهقينا؛ وهم ينظرون إلى مثل هذه التجارب ويضحكون ولا يدرون أن وعيهم يتشكل من خلالها.