عندما تخلط أميركا الأوراق

الدول العربية هي الغائب الكبير من معادلة توزيع النفوذ في سوريا.

ربما لم ينتبه أحد من المحللين والسياسيين، ومنذ اليوم الأول للحراك الشعبي وإلى الآن أن يصل الوضع في سوريا إلى هذه الدرجة من التعقيد والتشابك في المصالح والتغيير في المواقف السياسية والمفاجئات في النتائج العسكرية. إنها معارك كسر الإرادات وفرض الحلول بالقوة النارية والتوسع والتوغل بأي طريقة كانت على حساب الدماء السورية.

أما حديث الساعة هو عن ترك أميركا القوات السورية الديمقراطية (الكُرد والعرب والسريان) في سوريا بلا أية حماية بين الحشود والتهديدات العسكرية التركية والسورية بعدما كانوا في نظر العالم جنودا شجعان، ساهموا بشكل كبير بإبعاد شر تنظيم "داعش" عن العالم وأسقطوا عاصمة الخلافة المزعومة في الرقة.

هؤلاء الكُرد الذين كانوا ضحايا التقسيمات الاستعمارية في القرن المنصرم وجدوا أنفسهم في مواجهة أنظمة لا تؤمن إلا بلون واحد، وتقمعهم بشتى الوسائل لمجرد إنهم أكراد، إلى حين تسليط تنظيم "داعش" عليهم وعلى بقية المكونات في سوريا والعراق، ولا يزالون يبحثون عن الهوية الوطنية عادلة والحقوق القومية مستحقة.

بالرغم من النفوذ الأميركي الجزئي في العراق حاليًا ووجود قواعد عسكرية لها هناك، لكن، مع انسحابها العسكري الكبير في نهاية 2011 أطلقت اليد لإيران أكثر في هذا البلد والمنطقة، فهل سيفعل دونالد ترامب في سوريا كما فعل سلفه في العراق؟

لا تترك أميركا أي أرض دخلتها بسهولة ما لم تجد من يحفظ على أقل مصالحها هناك أو تحاول العودة مرة أخرى من خلال الفوضى الخلاقة أو إذا كان البديل الممنوح لها أفضل. البدائل هنا ليست المال وحده فالدول الكبرى كأميركا تبحث عن أراض بما فيها القواعد العسكرية لتتحكم بمصائر الشعوب والسلطات وتضبط إيقاع السياسات، وخاصة في المناطق الساخنة كَسوريا التي تشكل جسرًا بين بغداد وبيروت حيث المحور الإيراني الذي يكن العداء لها، زد على ذلك، تعد خطوة الانسحاب الأميركي من شرقي الفرات في سوريا تقوية لدور منافستها روسيا المتعطشة للمياه الدافئة في الشرق الأوسط، ومحطة لإنعاش داعش مرة أخرى.

محنة الكُرد، ودخول العرب!

وبعد تقوية دور دمشق بمساعدة حلفاءها على حساب وهن المعارضة وتشتتها، والتي وظفت أغلبها نفسها كأداة لتحقيق الأهداف والمآرب الداعمين لها وخاصة تركيا التي سلمت مدن وأرياف للمحور الروسي في اتفاقيات مشبوهة، ولملمة تركيا فيما بعد لهؤلاء المعارضين العسكريين وحشدهم في بعض جيوب من الشمال السوري كي تستخدمهم في حربها المعلنة منذ عقود ضد الكُرد ولإجهاض المكتسبات الكُردية السورية هذه المرة، لكن توجه مجلس سوريا الديمقراطية مؤخرًا صوب دمشق وموسكو جعل تركيا تتباطأ في تنفيذ تهديداتها الأخيرة باجتياح شرقي الفرات.

أما مسألة منح واستعادة حقوق الكٌرد من النظام في دمشق وفي الوقت الراهن وبدون إسناد وضغط إقليمي ودولي فلن تتحقق، وسيحاول النظام استعادة كامل المنطقة على طريقة ما تسمى بالمصالحات المحلية. وإذا عادت أميركا هذه المرة بشكل مباشر أو غير مباشر لخلط الأوراق من جديد فإنها ستحاول دفع كُرد سوريا والأتراك إلى التصالح لمواجهة التمدد الإيراني.

ونستنتج مما سبق إن توجه بعض الدول العربية نحو دمشق مؤخرًا هو ليس إلا محاولة من هذه الدول وخاصة الخليجية ومصر لإبعاد سوريا عن خطر التغول التركي والإيراني وإعادتها إلى عمقها العربي قدر المستطاع. تبقى هذه المهمة ليست سهلة، لأن حلف طهران مع دمشق ليس وليد اليوم وقد تعاظم أضعاف المرات منذ 2011. والتوغل التركي أصبح واقعًا، وبرضى المعارضة التي تشكل نسبة كبيرة من الشعب السوري، وإذا ما أراد العرب أن يبعدوا هاتين القوتين الإقليميتين عن سوريا فإنهم بحاجة إلى دعم الروس والغرب أيضًا. وهنا تتشابك المصالح وتكمن المعضلة. فالانسحاب الأميركي المزمع من شرقي الفرات هو في جزئها ترضية لتركيا لمساعدتها في مواجهة إيران، والروس بحاجة إلى إيران بشكل أو آخر لمواجهة الغرب... فهل ستنجح الدول العربية!