عندما يباح الاستعمار بالتقية يسقط الإخوان أمام الدولة المدنية

حركة النهضة الإسلامية متهمة بممارسة في شخص رئيسها راشد الغنوشي صلاحيات البرلمان التونسي لخدمة مشروعها السياسي، حيث استخدمت الدبلوماسية التونسية لتأمين حضور قوي للإخوان في ليبيا عبر "شرعنة" التدخل التركي فيها بحثا عن أريحية في محيطها الجغرافي.

تونس - أتاح البرلمان التونسي في جلسة مساءلة رئيسه راشد الغنوشي بتاريخ 03 يونيو الجاري الفرصة لتعرية حقيقة الإخوان المسلمين عبر فرعها في تونس حركة النهضة، والتي تقود حاليا عودة مشروعهم الفاشل في البلدان العربية.

جاءت التعرية المباشرة و"المحاكمة" الرمزية لرئيس البرلمان وهو رئيس النهضة أيضا وطوق نجاة الإخوان الأخير، على لسان امرأة هي رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي. ليس بالغريب أن تعرض نساء تونس اللواتي كن أول المستهدفات من قبل الجماعات الإسلامية فور وصولهم إلى الحكم بعد ثورات ما يسمى بالربيع العربي.

ربما لم يندم الغنوشي على فكرة تولي رئاسة البرلمان التونسي مثلما ندم بعد جلسة الأربعاء التي دامت أكثر من عشرين ساعة فضحت خلالها عبير موسي ونواب آخرون أساليب التقية التي اعتمدتها النهضة لسنوات لتنفيذ مشروع تنظيم الإخوان في المنطقة حتى وإن لم يتمكنوا من تمرير لائحة رفض التدخل الأجنبي في ليبيا.

إلى وقت قصير تمكنت النهضة، الذراع السياسي للإخوان في تونس، من السيطرة على الحياة السياسية منذ سقوط نظام زين العابدين بن علي في 2011، بعد أن أوهمت الشارع التونسي بتقديم التنازلات عبر إدخال تغييرات على منهجها من أجل الاندماج بشكل أكبر في الحياة السياسية. لكن فشلها في تطبيق ما تروج له في العلن وعجزها عن تقديم الحلول التي وعدت بها خلال حملات انتخابية جعلتها تتحكم في جميع الحكومات التي تعاقبت على السلطة خلال السنوات الماضية، حشرها في الزاوية ووضع قبضتها على دوائر الحكم في خطر أمام تراجع جماعات التنظيم في البلدان المجاورة.

من خلال العودة إلى أسباب المسائلة نفهم إن حركة النهضة تحاول استخدام كل الطرق لتثبيت مشروعها في تونس سواء من خلال اعتماد المساومة مع الأحزاب السياسية في الداخل أو عن طريق الضغط والاستقواء بالخارج عبر تلقي الدعم من القيادات التي بيدها مهمة توزيع أدوار سيطرة التنظيم الإخواني على أكثر من بلد في المنطقة خدمة لمشروعها السياسي. 

في يناير الماضي، عندما فشلت النهضة في تمرير حكومتها في البرلمان بعد فوزها بنسبة محتشمة في الانتخابات التشريعية، حلق رئيسها الغنوشي إلى تركيا لعقد اجتماع مغلق مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. هل صفة الغنوشي التي سافر بها حزبية أم حكومية رسمية تمثل أعلى سلطة في البلاد؟ النهضة متهمة بممارسة في شخص رئيسها صلاحيات البرلمان لصالح دورها السياسي فاستنجدت بطبيعتها الأيديولوجية بما يتماهى مع السياق العام للمشروع الإخواني في المنطقة والمتمثل في الثنائي تركيا وقطر.

عبير موسي التي تضع صورة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة مؤسس الدولة المدنية الحديثة في تونس أمامها في البرلمان، توجهت لراشد الغنوشي خلال مسائلته في البرلمان حول توظيف الدبلوماسية التونسية لخدمة مشروع الإخوان في المغرب العربي بالقول إن "هذه الجلسة التي ستسمع فيها حقيقتك المرة سيسمع فيها الشعب التونسي الأكاذيب التي تروجون لها".

موسي تحدثت عن محاولة الغنوشي تمرير اتفاقيات تخدم قطر وتركيا داخل البرلمان خلال الفترة الماضية في خضم التصدي لانتشار فيروس كورونا تنفيذا لأجندات الإخوان واتصالاته المريبة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان وإخفائه التنسيق مع إخوان ليبيا داخل حكومة الوفاق في طرابلس.

رمزية صورة بورقيبة خلال "محاكمة" النهضة ورئيسها في برلمان تونس تأخذ بعدا تاريخيا في بلاد كان لأول رئيس فيها دورا محوريا في مقاومة الاستعمار الفرنسي والمساهمة في حصول تونس على الاستقلال، في وقت يناقش فيه النواب رفض الاستعمار التركي الجديد في ليبيا بتواطؤ من جماعة الإخوان.

في الواقع لا تؤمن النهضة، مثل تنظيمها الأم، بالوطن ولا بالدولة المدنية، لا بل تعارضها معارضة تامة، رغم تغيير جلدها "طوعا" عندما أعلنت في 2016 "الفصل بين العمل الدعوي والسياسي"، خلال مؤتمرها العاشر. الفصل بين النشاطات الدينية السياسية يبقى مجرد تمويه من النهضة وهي "أفضل" من مارس التقية كي تكسب المزيد من الأصوات التي تؤهلها للوصول إلى كل دواليب الحكم، ثم تفتح البلاد أمام تيارات الإسلام السياسي بما يهيئ لها الأرضية الخصبة لتثبيت وإحكام سيطرتها على البلاد والعباد.

قبل إعلان "فصل الديني عن السياسي" داخل النهضة قال الغنوشي في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية إن حركته تريد القيام بنشاط سياسي يكون "مستقلا تماما" عن النشاط الديني. إعلانها صراحة بالقول "نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة"، هو دليل قاطع على أن المرحلة الحالية فرضت التحول في نهج السيطرة على الحكم والتركيز على السياسة عبر التكيف مع الأوضاع التي لا مفر منهما بهدف إعادة هيكلة الخطط العقائدية خدمة لتصور جديد تضمن فيه العبة الانتخابية الاندماج السياسي للجماعة.

حققت النهضة حلم الوصول إلى الحكم بإصرار الغنوشي على رئاسة البرلمان مركز الثقل السياسي في الدولة في صورة رمزية أرضت غروره، لكن الحقيقة في تونس تختلف عن نهاية حلم الإخوان في بلدان أخرى. فهيمنة النهضة على البرلمان ساهم في نشر غسيل إخوان تونس بنفس الأساليب التي اعتقدوا إنهم مارسوها لإضعاف الدولة والإلتفاف على مكتسباتها من ديمقراطية وحقوق وقوانين: الشرعية والقانون.

رمزية صورة بورقيبة خلال "محاكمة" النهضة ورئيسها في برلمان تونس تأخذ بعدا تاريخيا في بلاد كان لأول رئيس فيها دور محوري في مقاومة الاستعمار الفرنسي والمساهمة في حصول تونس على الاستقلال، في وقت يناقش فيه النواب رفض الاستعمار التركي الجديد في ليبيا بتواطؤ من الإخوان

كشفت المسائلة التي دعت لها موسي حول دور الغنوشي في دعم التدخل التركي في ليبيا واستخدام دبلوماسية التونسية لتعزيز دور إخوان ليبيا داخل حكومة الوفاق في طرابلس، أن حركة نهضة أو "حركة الاتجاه الإسلامي" سابقا، أفضل من مارس التقية من جماعة الإخوان في كل البلدان التي ينشط فيها التنظيم الدولي.

تشدقت النهضة في دفاعها عن حكومة الوفاق الليبية باعتبارها حكومة شرعية في طرابلس لكنها في الحقيقة تنتظر دورا مهما منها لتقديم الدعم السياسي الذي فقده الإخوان في مصر وغيرها من بلدان العربية، حيث يمثل تأمين حضور قوي للإسلاميين في ليبيا أريحية في محيط الحركة الإسلامية الجغرافي، فمواصلة المشروع السياسي تحت قيادة المحور التركي القطري منظر الإسلام السياسي في المنطقة، سيتيح للنهضة إعادة نشر فكرها وتثبيت مشروع الإخوان الضائع.

لقد منحت تونس وقبلها مصر وحتى ليبيا الفرصة للإخوان لتقديم مشروع اجتماعي واقتصادي مفيد كما كانوا يروجون خلال خطاباتهم السياسية للحصول على أصوات الناخبين، لكن فرصة الحكم تلك عرتهم وكانت الضربة القوية لمشروعهم الذي بني في الأساس على قبول الشعب والسيطرة على أفكاره أكثر من أيّة جهة أخرى تعارض مشاركتهم في الحياة السياسية.

ولذلك تمارس جماعة الإخوان التقية كأداة تسعى من خلالها وعبر خطابات مزدوجة للوصول إلى سدة الحكم، ولأن مخططاتها وأهدافها السرية تتعارض مع معتقدات وأفكار المجتمع تسعى للتغلب على هذه العراقيل بإظهار عكس ما تبطن، وذلك بهدف كسب ثقة وتأييد فئات المجتمع والظهور في ثوب المحقق لمطالب الشعوب وطموحاتها.

ممارسة أسلوب التقية، أي أن يقي الإنسان نفسه بما يظهره، وإن كان ما يضمر خلافه، تمارسه النهضة منذ عودة الغنوشي إلى تونس في 2011 على إثر سقوط نظام بن علي. وقد أثبت رأي رئيسها في سقوط الإخوان في مصر وتسرعهم في "أخذ كل شئ مرة واحدة" ما أدى إلى نهاية حكم محمد مرسي، نجاعة أسلوب التريث عند تنفيذ مشروع التمكين داخل مؤسسات الدولة أولا.

ولعل أبرز درس استلهمه الغنوشي من فشل الإخوان في مصر هو بقائه بعيدا عن تقلد أي منصب سياسي في بداية عودته إلى دوائر السلطة خلال حكم الترويكا حين شهدت تونس انقاسماً واستقطاباً حادين وخلافات مع باقي القوى السياسية التي قادت الاحتجاجات، وهو ما دفعه لإقناع النهضة بالتخلي عن جزء من الحكم، ولو لحين، خصوصا بعد الاغتيالات التي طالت قيادات يسارية والعمليات إرهابية التي شهدتها تونس خلال السنوات الأخيرة.

كانت الصدامات العنيفة والاغتيالات والإرهاب في تلك الفترة جرس إنذار للنهضة المتوجسة من سيناريو خسارة السلطة في مصر بعد أن لجأ الإخوان فيها للعنف والقتل لتنتهي الكارثة بسقوط مشروعهم الأصولي.

لقد منح التوافق الذي رعاه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مع النهضة الغنوشي طوق النجاة من سيناريو مرسي في مصر. لكن هدف السبسي آنذاك كان كبح جماح الإسلاميين الساعين لإقامة دولة دينية فساهم في حماية مكاسب المرأة بوضعهم أمام الأمر الواقع وتعريتهم عن طريق الدفع بهم نحو الحكم دون اقصاء حتى لا يتمكنوا من استخدام سلاح المظلومية ولعب دور الضحية الذي أتقنوه خلال فترة حكم بن علي.

النائب اليساري منجي الرحوي ذكر الغنوشي خلال مداخلته ضمن مساءلة البرلمان بأن حركة النهضة هي "حلقة من نفس السلسة لأن القناعات هي نفسها"، متوجها لرئيسها بالقول "أنتم أبناء وأحفاد سيد قطب والمودودي والبنا الذين يمثلون أصل قناعاتكم ويكفرون ولا يؤمنون بالدولة المدنية والديمقراطية وكانوا خدما لأسيادهم من الاستعماريين.. وهو ما نراه اليوم في تونس".

يعيد تذكير الرحوي للغنوشي بقيادات إسلامية مثل أبو الأعلى المودودي وسيد قطب ومحمد قطب وحسن البنا وغيرهم من المراجع لدى الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، إلى الأذهان أهمية المفاهيم التي ابتكرها الإخوان لجذب فصائل هامة من الشباب العربي. وقد ساهمت حركة النهضة في الترويج لتلك المناهج المعتمدة في كتبهم على نطاق واسع حيث شجعوا خلال سنوات منع نشاطاتها في تونس على نشرها وتوزيعها سرا في مختلف المدن التونسية بهدف الانقلاب على حكم بن علي.

الرحوي فسر للغنوشي معنى الدبلوماسية لدى الإخوان باعتبارها "جزء من التقية"، مذكرا أن الجهاز السري للنهضة الذي وجهت له التهم بمسؤوليته في عملية اغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد في فبراير 2013، هو أحد حلقات الأساليب المراوغة للتخوين والتخويف التي دفع ثمنها العسكريون والأمنيون خلال تصديهم للإرهاب.

النائب التونسي اعتبر التحريض الذي يعتمد إخوان تونس "توزيع أدوار بينهم وبين مختلف حلقات السلسة المتعلقة بتصور العالم الذي ينبني لدى تنظيم الإخوان فقط على السلطة دون أي مشروع اقتصادي أو اجتماعي يخدم الشعوب"، فهم مستعدون حسب قوله "لكل شئ" من "بيع الأوطان" إلى التحالف مع الأميركيين والإسرائيليين وحتى "احتضان الشيطان" وذلك "من أجل الوصول إلى ذلك الموقع لممارسة الأجندة الخاصة بهم".

لقد استوفى الإخوان في مصر وليبيا شرعيتهم عندما قدمت لهم فرصة الحكم على طبق من ذهب، لكن فكرهم الأصولي ولجوئهم للعنف والتكفير عبر الخطابات المزدوجة، وضع حد الديمقراطية سيفا على رقابهم لذك تريد تركيا وقطر اليوم تخليصهم منه باستخدام "شرعية فقدوها في القاهرة وطرابلس على طريقة تجربة النهضة في تونس.

لقد جعل دعم قطر وتركيا للجماعات والتنظيمات الإسلامية المتشددة وتبادل الأدوار بينهما، البلدان العربية التي شهدت ثورات شعبية في السنوات الأخيرة، مركزا للثقل الأصولي في المنطقة والعالم، وما يدور في ليبيا وقبلها سوريا ما هو إلا دليل على صراع إقليمي دولي كشف انتهازية الإخوان في بحثهم عن موطئ قدم لهم من جديد تماما كما تفعل إيران ووكلائها والجماعات الإرهابية كداعش والقاعدة وغيرها.

ففي إسطنبول والدوحة، حيث يقيم عدد كبير من قادة الإخوان، يحاول التنظيم ترتيب أوضاعهم لإمساك بزمام الأمور من جديد في ظل فشل حركات الإسلام السياسي التي اعتمدوها للوصول إلى السلطة في عدد من البلدان العربية في السنوات الأخيرة.

سقوط الإخوان ومشروعهم في أكثر من دولة وانكشاف حجم العنف والدمار الذي جلبه صعودهم إلى السلطة، جعلهم يعتمدون على الشرعية كحق يراد بها تمرير كل ما هو باطل واعلى لديمقراطية كأسلوب للتمكين، في المقابل كان أسلوب إطلاق يد التيارات السلفية والجماعات الإرهابية لتهديد وتخويف الشعوب الثائرة سببا في تمردها أكثر حين تأكدوا من نواياهم.

إن إيهام الإخوان بأنهم يؤمنون بالشرعية كلما تعلق الأمر باستهدافهم هو جزء من التقية للضحك على ذقون الشعوب بعد أن أصبح التنظيم كيانا هشا ومكسورا، فالنهضة التي تذوقت طعم السلطة لن تكف عن تجنيد مؤسسات الدولة لصالح إستعادة الجماعة الأم مشروعها الإديولوجي في المنطقة انطلاقا من تونس، لكن فضح تهديدها للأمن القومي للبلاد عبر "شرعنة" التدخل التركي في ليبيا، أطلق رصاصة الرحمة على رئيسها وأيضا على مستقبلها السياسي في ظل الانشقاقات والخلافات الداخلية التي تعيشها.

لكن هل يتعظ الإخوان!