عن شعوب عزيزة وأخرى فائضة
ليست الحرب مناسبة للتباهي باللغة العنصرية. ضحايا الحروب متساوون على المستوى العاطفة الإنسانية. الوضع البشري يقول ذك. وما من مجال للشفقة واستجدائها. ومن المعيب تمييز ضحية عن أخرى. الجرح البشري واحد والفضيحة الأخلاقية واحدة. هناك جريمة هي الحرب وهناك ضحايا كانوا إلى وقت قريب ينامون على أسرتهم ويحلمون بحياة أفضل وصاروا فجأة يقيمون في أماكن ليست لهم بغض النظر عن نوعها أو مستوى العيش فيها. بشر مدنيون ومسالمون وأبرياء تحولوا إلى أسرى في حرب لم تكن لهم مصلحة فيها. حرب هي ليست حربهم.
"ليسوا سوريين. إنهم أوكرانيون"، "إنها أوكرانيا وليست العراق". جملتان مخزيتان تجرحان الضمير. ولكن هل هناك شيء أسمه الضمير في ظل ذلك التعالي غير المبرر والذي لا يمكن تفسيره. فما الفرق بين إنسانين قد تعرضا لظلم واحد؟ أم أن الظلم على إنسان لا يشبه ظلما وقع على إنسان آخر. طبعا صار علينا أن نفهم الآن لمَ تُرك الغزاة الأميركان يعيثون فسادا بأرواح العراقيين. يمكننا الآن أن نفهم لمَ تركت تركيا تتاجر بالسوريين، ألفت من البعض جيشا داخل سوريا ونظمت من البعض الآخر جيشا من المرتزقة في ليبيا أما الأكثرية فقد ابتزت بهم أوروبا وعبأت قواربها بهم فمات الكثيرون ومَن نجا صنعت منه الدول الأوروبية مادة تستعرض من خلالها إنسانيتها الفائضة.
نسي العالم بعد حوالي عشرين عاما العراقيين ولم يبق في الذاكرة سوى صدام حسين، الوحش الذي تُستعاد من خلاله صورة هتلر التي يتم مزجها بصورة بوتين عن طريق تقنية "فوتو شوب" ليكونا الشخص نفسه. لقد نسي الأوروبيون أنفسهم وفقدوا عقولهم ولم ينتبهوا إلى أنهم ساهموا في تدمير العراق وسوريا وتهجير سكانهما. وفي الحالين كانت الكذبة الأميركية تسعى مثل أفعى. أكان ما حدث هناك ضروريا بالنسبة للديمقراطية الغربية؟ لقد ذهبت ملايين البشر إلى العدم. خرج بشر من بيوتهم ولن يعودوا أبدا إليها. لقد اعتبروا كائنات فائضة. لم يعتبرهم أحد ضحية. وإن اعتبروا كذلك فإنهم ضحايا الحكام. دائما هناك صورة لصدام حسين وأخرى لبشار الأسد. ولا ذكر للولايات المتحدة. لا ذكر للجماعات الارهابية التي رعتها الولايات المتحدة ولا ذكر لأرواح العراقيين والسوريين باعتبارهم كائنات فائضة.
أما الأوكرانيون فإنهم كائنات عزيزة لأن الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون لم يشردوهم من بيوتهم. بوتين هو الذي شردهم. الروس وحوش عمياء وهم أكلة بشر. حتى فيدور ديستوفسكي كاتبهم العظيم وهو مُلك البشرية تجرأت جامعة إيطالية على منع تدريسه جزء من المقاطعة التي فُرضت على روسيا. شيء يشبه الفكاهة. الأوكرانيون بضاعة جيدة للتصدير إلى العالم كله. إلى جانب الذهب والنفط سيدخلون إلى سوق البورصة العالمية. أليس ذلك متوقعا بعد أن تم تمييز تشرد الأوكراني عن تشرد السوري وبعد أن رُفضت المساواة ما بين الغزو الأميركي للعراق والغزو الروسي لأوكرانيا؟ يمكننا أن نشكر الغرب هذه المرة. نادرة هي المرات التي يقول فيها الغرب الحقيقة خالصة.
بالنسبة للغرب فإن التمييز بين ضحية وأخرى هو أسلوب تفكير سياسي. فالعراقيون والسوريون ليسوا ضحايا لأنه هو الذي دمر بلادهم وحولهم إلى لاجئين هم أقل من أن ينظر إليهم من جهة المسؤولية الأخلاقية باعتبارهم كائنات يجب أن تستعيد حياتها السابقة. اما الأوكرانيون فهم ضيوف معززون سيستعيد كل واحد منهم عن قريب بيته. لذلك يجب أن يعاملوا بدلال ورقة إلى أن تنتهي الحرب. تلك البروباغاندا تنطوي على الكثير من الكذب. فلا أحد يعرف متى وكيف تنتهي الحرب ولا أحد يمكنه أن يضمن عودة أولئك الهاربين إلى بيوتهم. قد لا يعود أحد منهم إلى بيته بسبب استمرار الاحتلال الروسي وقد لا يجد بيته في مكانه إن عاد. في حقيقته فإنه قد تحول إلى رقم. ذلك ما حدث للعراقيين والسوريين من قبله. لا فرق.
ولكن لغة التمييز العنصري لا تعترف بكل تلك الحقائق.
إلى هذه الدرجة يكرهوننا؟ هم يقدمون مادة يسيرة إلى الجماعات الارهابية التي تعزف على ثنائية الكراهية بين الغرب والإسلام. ولكن تلك الجماعات تحظى بدعم غربي. مثال ذلك ما حدث في سوريا.
ولكنهم يشهرون في الوقت نفسه عن نزعتهم اللاخلاقية وهي نزعة غريبة على أوروبا، على الأقل على المستوى الفكري. هناك ما يجب الاعتذار عنه من التاريخ الاستعماري وهناك استعمار من نوع جديد تورطت الكثير من الدول ومنها أوكرانيا في ارتكابه.
كانت أوكرانيا قد ساهمت في تشريد شعب العراق وهي اليوم تعيش مأساة تشريد شعبها.