غلام الله يفتش عن الأخلاق في الزمن الرقمي

الجزء الرابع من مشروع الدكتور بوعبد الله غلام الله 'دروس الفلسفة' جاء ليفتح المجال أمام مساحة معرفية واسعة لتناول الأسئلة الكبرى في حياتنا في مقدمتها كيف يمكن التوفيق بين المفهوم الانطباعي للأخلاق والممارسة الميدانية للسلوك؟

خصص الدكتور بوعبد الله غلام الله الجزء الرابع من مشروعه "دروس الفلسفة" لموضوع الأخلاق، معتبرا أن دراسة موضوع تجليات الفلسفة في الحياة اليومية قد أصبح من الحتميات الضرورية خاصة وأننا نعيش زمنا بقدر ما يدخل فيه التعقيد والتشابك بقدر ما يجعلنا بحاجة إلى فهم طبيعة الحياة ونوعية السلوك وخلفيات المواقف بمسافة هي الأقرب إلى الحقيقة وهو ما لا يمكن الحصول عليه إلا من منظور فلسفي.

ومن هذه الخلفية جاء الجزء الرابع ليفتح المجال أمام مساحة معرفية واسعة لتناول الأسئلة الكبرى في حياتنا في مقدمتها كيف يمكن التوفيق بين المفهوم الانطباعي للأخلاق والممارسة الميدانية للسلوك؟ وما هي الأرضية التي نرتكز عليها في تحديد نظرتنا لما هو (حسن / جيد/ مرغوب.....) مما تتطلع إليه أنفسنا وتحقق سعادتها في علاقاتنا بالآخرين سواء الأقرب في المجتمع الواحد أو في العالم بأسره، هذا العالم الذي تتقلص فيه المسافات إلى أدنى مستوى لها؟ وما هي نوعية ومستويات المصالح (المراد تحصيلها) المتحققة في التحوير الجديد للسلوكات والمواقف (الذاتية / الجماعية)؟

إن انخراط الدكتور بوعبد الله غلام الله في معركة مثل هذه الأسئلة يجعل من الجزء الرابع مختلف إلى درجة ما عن بقية الأجزاء الثلاثة السابقة، وإن فضل الكاتب أن يجعل من الغموض لأسلوبه والضبابية في التأطير والجلي من المقاصد، إلا أنه يضع ما يمكن أن نسميه "المستوى النوعي" من الكتابة في المشهد الفلسفي الجزائري، وهو المستوى الذي يعود بنا إلى كتابة نخبة زمن السبعينات من القرن الماضي على طراز مالك بن نبي وعبدالله ركيبي وأبوالعيد دودو والطاهر وطار وغيرهم ممن شكلوا طبيعة الحقل الثقافي الجزائري.

ومع توالى صفحات كتاب الجزء الرابع من "دروس الفلسفة" تتكشف لنا هموم الكاتب الدكتور بوعبد الله غلام الله وقلقه البارز من نوعية الفهم والتناول والأسلوب الذي تمارس فيه الممارسات الفكرية في المشهد الجزائري، فيبرز قلقه وفي بعض الأحيان انزعاجه من عدم قدرة فعل الكتابة الفلسفية والانشغال الفكري للنخب الجديدة، فيأتي رده من خلال اللغة التي يستعملها والنسق الذي يضع فيه انشغالاته والتركيب الذي يبنى به منتوجه الفلسفي، معتبرا أن التمسك بعلياء اللغة ليس مجرد ألفة انتماء أو ارتياح انخراط ولا هو من نوع الاغتراب المؤثر، وإنما هو مفتاح مهم من مفاتيح الفهم والاقتراب من الحقيقة التي تحقق المقصد المعرفي وتقرب من الحكمة التي هي مراد الفلسفة في نهاية المطاف.

إن الدكتور بوعبد الله غلام الله وهو يخوض معركة الأسئلة المزعجة (الأخلاق اليوم) يظهر عليه انشغال مؤرق يكشفه أسلوبه في الجزء الرابع والمتمثل أساسا في "المفهوم الرقمي للأخلاق"، وهو التأثير التكنولوجي الذي تجاوز نوعية الحياة وأساليبها، وإنما تمكن من فرض حتمية إعادة صياغة الكينونة الذاتية للفرد والجماعية، الذي يبدوا أن الجميع أعلن الاستسلام لها دون أن تكون هناك نوع من المشاحنة والممانعة أو الاشتباك مع دلالات المرحلة الحالية، والتي تشرف على نهايتها وتبرز ملامحها القادمة التي أكثر شراسة من المفهوم الذي أخذته الحياة في (الزمن التكنولوجي)، وما ينتظر أن يكون عليه مفهوم الأخلاق في (الزمن الرقمي).

إن الدكتور بوعبد الله غلام الله وهو يشتبك مع المعاني ودلالات الأخلاق، في الجزء الرابع يظهر وهو متخلص من خلفيته الدينية، كونه ينتمي إلى التيار الصوفي الغنوصي، وفي نفس الوقت يدير أكبر مؤسسة دينية في الجزائر، ومتجاوز تلك الطبيعة البيروقراطية المعهودة، كونه من أعمدة التسيير الإداري الجزائري، وهو متطلع إلى تناول الأخلاق بمفهوم إنساني، سواء من خلال فتح المجال إلى كل المفاهيم والمعاني التي توصل إليها فلاسفة الدنيا، أو من خلال الأمثلة المساندة لما يريد أن يعزز به وجهة نظره، دون أن تختفي من نصوصه المورث الثقافي للقاموس الشعبي في تحديد معاني الأخلاق ودلالاتها.