غياب الإصلاح الثقافي ضمن الخيارات السياسية يعمق تهميش المثقف

الأديب التونسي حاتم النقاطي: الظلم تجاوز المدى وعلى رئيس الدولة إنفاذ القانون.
دكتور رياض خليف
تونس

لا أدري من أين أبدأ في تقديم الأستاذ حاتم النقاطي المربي والأديب والباحث والإعلامي فأبواب تقديمه مفتوحة على احتمالات شتى. هل من دروس الفلسفة التي كان يقدمها في التسعينات بمعهد عقبة بن نافع بالقيروان؟ أم بتلك اللقاءات الأدبية التي كان ينظمها بالمركب الثقافي أسد بن الفرات بالقيروان؟، ذاكرة عميقة تحتفظ بمشاهد هذا الرجل وحضوره الثقافي والفكري المتميز على امتداد عقود، فهو أحد الذين وهبوا حياتهم لأسئلة الفكر والإبداع وساروا في دنيا الكتاب والمعرفة، وقد عزز هذا التوجه بتخصصه الجامعي في نظريات الفن التي يدرسها منذ سنوات بالجامعة التونسية. حول هذه المشاغل وحول الصراع الذي يخوضه بضراوة منذ أعوام من أجل مناقشة أطروحته كان لنا هذا الحديث.

1 الشعر سفر وتداخل للأجناس

س: تفصح سيرتك الأدبية عن تنوع ورحلة أدبية ثرية، فمنذ متى انطلقت في تجربة الكتابة؟

ج: هي كلمات تعود لطفولة مليئة بعشق الكلمات شعرا ونثرا كتابة وقراءة حيث كنت أجرب الشعر وأمارس الحديث والقص مع الذات بين أزقة القيروان وفي خلوتي المنزلية، كتابات طفولية تناغم فيها السري مع العلني وبدأت رحلتها الجادة في أول الثمانينات، إذ نشرت وأنا تلميذ أولى أعمالي الشعرية "رقصات على أنغام الصحراء" سنة 1982، لتتنوع بعد ذلك مجالات الإصدارات لتمس الشعر والرواية والفلسفة والفنون. أنا من جيل احتضنته الصفحات الأدبية لعدد من الصحف التونسية كالأنوار "الصباح" "الصدى" و"الأيام" و"الشروق"

و"الصحافة"، وأيضا هو جيل حضر بقوة في المجلات التونسية والعربية نذكر منها مجلة الفكر التونسية ومجلة الأقلام العراقية.

جيل نشأ في نوادي الأدب بدور الثقافة والشباب واحتك بالسابقين وطوّر ذاته بالكتاب وبالدراسة وبحلقات النقاش بالمقاهي والمعاهد والجامعات وشارك في الملتقيات التونسية والعربية والغربية ليعرّف بتجاربه في مجال قصيدة النثر والقصيدة الحرة والنقد.

أنتمي لجيل له هموم عربية ظهرت في نصوصه فدافع ذات يوم عن قضايا العروبة وأساسا العراق وفلسطين. أنا من جيل أحب الكتابة وساهم بما يستطيع ليعّرف بالأدب التونسي وليطوّر أسس التلقي فقد كنت من بين الذين اختارهم الشاعر والأكاديمي المرحوم عزالدين المناصرة في كتابه "إشكاليات قصيدة النثر نص مفتوح عابر للأنواع" الصادر ببيروت سنة 2002 لتقديم شهادتي حول هذه الكتابة.

س: كيف جمعت بين الشعر والفلسفة؟ خطاب العقل وخطاب اللاوعي؟ وهل يمكن اعتبار الشعر خطاب اللاوعي؟

ج: كنت ولازلت لاعبا بالكلمات ومسافرا في عالم المتخيل مؤمنا بتعدد الأجناس ووحدتها لذلك تنوعت تجاربي المنشورة بين الشعر والنثر، وقد مكنتني دراستي الأكاديمية في الفلسفة والفنون من تغذية روافدي الإبداعية لتأسيس رؤية تنير لي أسس الالتقاء بالمتلقي وكذلك كانت منشوراتي في مجال الفلسفة نافذة أخرى على العالم.

إنّ الشعر يظل هو الروح الأصلية للتعبير عن وجودي وكل ما قدمته لي عوالم البحث في الفلسفة والفنون تظل موظفة للتعبير عن الخارج والداخل. الشعر لعنة قديمة ولغة سحرية أوكل لها "هيدقار" إخراج الوجود من النسيان إلى الحضور. الشعر هو فعلا ذاك المختفي في الباطن في ذاك المسكوت عنه الذي يكون فيه وعيه متلبسا برمزية اللاوعي في أبعاده الذاتية والجماعية إن الشعر هو بحق تجربة السفر واللعب والجنون عبر المتخيل الذي ينفتح على كل الخطابات والفنون.

2 القيروان ذاكرة الزمكان

س: خضت في التسعينات تجربة تنشيط نادي أدبي في القيروان، لماذا توقفت هذه التجربة؟ وهل ما زالت هناك نوادي أدبية حقيقية بذلك النمط في هذه البلاد؟

ج: هي تجربة دامت لعشرية كاملة كان هدفها مواصلة عشق مدينة القيروان للكتاب وللكلمات لذلك عملت مع عدد من الأصدقاء على التعريف بالأدب التونسي والعربي ضمن مجالسنا، هو حلم أردت أن يعشش في ذهنية جيل جديد من التلاميذ والطلبة وعامة الناس، كان الرهان خلق شباب يهتم بالفكر والثقافة، ولعل العديد من الأسماء الأدبية القيروانية وغيرها مرت من هذا الفضاء لتواصل سنّة الكتابة والنقد. فعلا كانت تجربة جميلة وثرية انتهت بنقلتي للتدريس من القيروان لنابل سنة ألفين. ولعل تجربتنا الأدبية في القيروان تزامن انغلاق قوسها مع بداية توجه ثقافي سياسي جديد بدأ في الانعراج نحو خوصصة الثقافة واتجاهها نحو خيارات عولمة الأدب واختيار المواقع الأنترناتية كفضاءات بديلة.

س: هل يمكن أن نستنتج من الوضع الثقافي المتردي أن ساسة البلاد في السنوات الأخيرة منذ الثورة وربما قبلها لا يتوفر لديهم اقتناع بمكانة المثقف؟

ج: هي العولمة التي زحفت على هذا العالم لتأسس خيارات جديدة جوهرها المنفعة والمال وتوظيف العلم لخدمة قيمها حيث المصالح وسطوة النافع، لذلك فلا مفر من تهميش المثقف كمدافع عن قيم الخير والفضيلة. إن ما فعله بنا "حكام العشرية الماضية" في وطن طمح لبناء الحرية والكرامة ما كان سوى ذاك المشروع الهادف لإنهاء خصوصياتنا الثقافية والسياسية. وللأسف فإن تهميش المثقف لازال متواصلا لغياب الإصلاح الثقافي العميق ضمن خياراتنا السياسية، ولعدم وجود تقارب بين المثقف وأصحاب القرار السياسي.

س: أين أنت من القيروان؟ أراك تغيب عنها؟

ج: منذ أكثر من عشرين سنة غادرت القيروان للبحث عن تنويع روافدي الشعرية من جهة ولاستكمال دراستي الجامعية "ماجستير ودكتوراه" من جهة أخرى، فغادرت صفرة الأسوار وحكايات التراث وعمق أمكنته وأزمنته لمدن الماء والحلم واخترت العيش بالوطن القبلي ببني خيار تحديدا متمتعا بالهدوء والبحر وصفاء السماء. هي عزلة مكنتني من تطوير ذاتي وروافد الكتابة لدي والتخلص من ثقل الأمكنة.

القيروان تظل ذكرى جميلة ومتنفسا نعود إليه متى نشاء هي الأولى ولكنها ليست الأخيرة. لازلت أساهم في بعض الندوات الجامعية في الداخل والخارج ولازلت أكتب وأنشر وأنتج في المجال السمعي أما في مجال النشاط الثقافي فإني أنتقي الدعوات التي تصلني للمشاركة في الندوات والملتقيات لأني لم أعد ألمس فيها احتراما للمثقفين وللكتاب وللجامعيين.

كنت ولازلت هناك فأنا من أصواتها وصداها بها ولدت وفي كتاتيبها ومدارسها وشوارعها تعلمت سر الكلام ونقلته لتلاميذي وطلبتي. وعلى الرغم من استقراري في الوطن القبلي فإني لازلت أدرس بها كأستاذ جامعي، ولازلت متواصلا مع جمهورها الثقافي عبر ما أنتجته في إذاعة صبرة من برامج أدبية، وفي مهرجان ربيع الفنون الذي كنت من المشاركين في عدد من أمسياته ومن الساهرين على تنظيم البعض من جلساته الفنية. قل الحضور ولكن الوجود موجود.

3 حوار في الذاكرة

س: عرفت بتجربتك الصحفية وبحواراتك المهمة، ما هو أهم حوار يبقى في ذاكرتك بعد كل هذه السنوات؟

ج: لقد كنت حاورت العديد من السياسيين والكتاب والمثقفين ولعل من أبرزهم الوزير الأول السابق محمد مزالي والرئيس السابق الباجي قائد السبسي ووزير الثقافة في عهد بورقيبة البشير بن سلامة، ولكن أذكر حوارا أثر علي كثيرا، لقد كان ذاك اللقاء مع "محمد مزالي" في أواخر ديسمبر/كانون الأول سنة 2008 على إثر صدور كتابه "نصيبي من الحقيقة". كان حوارا يؤرخ لعلاقته السياسية بحكم "بورقيبة "، ظهر فيه الوجه المتألم لسياسي بارز انقلب وجوده من حال إلى حال ومن كثرة إلى قلة ومن جماعة إلى فرد ومن سلطة إلى عزل ومن شهرة إلى نكرة. ومما أذكر تألمه الشديد من عدم دعوته لحضور مؤتمر اتحاد الكتاب التونسيين الذي كان على الأبواب. ما زلت أذكر بريق دموع الشدة والكرب والقهر من أجوبته حول ماضي وحاضر تاريخه السياسي حتى أنه في أحد أجوبته ذكر: "ندمت على الاشتغال بالسياسة".

س: كيف تفاعلت السلطة مع حوارك مع "محمد مزالي" حول كتابه "نصيبي من الحقيقة"؟ وهل صحيح أنك تعرضت إلى مضايقات بسبب هذا الحوار؟

ج: لقد كان نشر هذا الحوار بجريدة القدس العربي اللندنية حدثا فاجأ السلطة السياسية، إذ أنه أول حوار للرجل من الداخل بعد العفو الذي تمتع به من الرئيس السابق زين العابدين بن علي ولكنها لم تر فيه ما يمس بالأمن العام وبسلطة رئيسها لذلك نشر لاحقا بجريدة الصباح التونسية. ولكن ما حصل بعدها من أحداث يكشف باب الحيطة من الرجل، إذ أن بعض المسؤولين في مجالي الإذاعة والتلفزة التونسية رفضوا طلبنا بقبولهم لتسجيل وبث هذا اللقاء ليكون شهادة على العصر لفترة تاريخية حاسمة ومهمة في تاريخ هذا البلد. كما استبعد الرجل من كل دعوة للحضور في التظاهرات الثقافية والفكرية بتونس، كما علمت بعدها أيضا أن هاتفي الشخصي ظل مراقبا لفترة.

4 دولة العدل والإنصاف تقتضي إيقاف التنكيل بالجامعيين

س: ما تزال أطروحتك على الرفوف منذ أكثر من 13 سنة؟ فما مرد هذه الحالة الغريبة؟

ج: فعلا هي معركة من أجل تغيير واقع جامعي تغيب فيه الحوكمة والقوانين والمحاسبة. عالم ينعدم فيه احترام حقوق الباحثين ويكتنفه تمييز جهوي وجنسي وعرقي حيث تكون المصالح والمنافع بديلة عن موضوعية التقييم وسمو المعرفة والقيم. معركة خضتها في الإعلام المكتوب والسمعي والبصري والافتراضي وفي ساحات القضاء وفي أروقة ومكاتب وزارة التعليم العالي ضد لوبيات لا تعترف بالحدود ولا بالحقوق ولا بسلطة تعلو وجودها. معركة ساندني فيها الأصدقاء من النقابيين والإعلاميين والفنانين والمثقفين والحقوقيين ضدّ إدارة وهياكل وجماعات وأفراد تغيّب سلطة الدولة على المؤسسات، ولا تعتقد في وجود سلطة قادرة على ردع تجاوزاتها وجبرها على تطبيق القانون. كنت أودعت منذ يناير/كانون الثاني 2010 أطروحتي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس للمناقشة وقمت بكل الإصلاحات المطلوبة من اللجنة وتحصلت على أحكام باتة من المحكمة الإدارية لصالحي ضد من حرمني من المناقشة "وزير التعليم العالي ومدير المعهد العالي للفنون الجميلة تونس ورئيس جامعة تونس" يونيو/حزيران 2016 ديسمبر/كانون الأول 2018، وعلى قرار من الرئيس الأول للمحكمة الإدارية بالمساعدة على التنفيذ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، يدعو فيه الخصوم لاحترام حيثيات الحكم وما نص عليه من اختصاص في تقييم العمل ومناقشته، لكني إلى الآن لم أستطع مناقشة أطروحتي لأحرم من إفادة ذاتي وطلبتي والمختصين في الفنون البصرية من تتويج لثمرة بحوثي، وهو ما يمسّ من قيم الجامعة التونسية ومن علوية سلطة القضاء عماد المدنيّة وضامن الكرامة والحرية. إني أدفع ثمن نيلي لأحكام قضائية فضحت الفساد الجامعي بالطرق المشروعة والشرعية وأحرجت لوبيات وجماعات تنتمي لمنظومة الفساد والاستبداد التي استقوت بسلطة المعرفة على الدولة والمؤسسات.   

س: ألا ترى أن قضية أطروحتك تم تغييبها في كتاب الأزهر الماجري حول الجامعة التونسية وهي الجديرة بالحضور لشهرتها وعمرها؟

ج: أولا علينا أن نثمن ما قدمه صاحب هذا الكتاب من وقائع فضحت تجاوزات طالت الباحثين ومست من تثمين جهودهم التي تتوق لتقييم نزيه يضمن لهم حقوقهم العلمية والمهنية. ثانيا أن هذا العمل مس المسكوت عنه في الجامعة التونسية ذلك أن أغلب المتعرضين للمظالم الأكاديمية لا يجاهرون بها خوفا من انتقام "لوبيات" السلطة والمعرفة وحرمانهم لاحقا من أي ترقية فينخرطون في قبول السائد والمألوف. ثالثا إن هذا الكتاب وعلى الرغم من عدم ذكره لمظلمتي ضمن أمثلة "جحيم الجامعة التونسية"، فإنه يظل جهدا فرديا نسبيا لا ننتظر منه شمولية الخبر فالمهم أنه مس "عش الدبابير".

س: هل أوشك الستار أن ينزل على هذه القضية بعد كل هذه السنوات من الانتظار والشكوى؟ أين وصلت الأمور؟

ج: من المؤسف أن وزارة التعليم العالي تغيب حقنا في النفاذ القانوني للمعلومة الرسمية، إلا أنه بلغ إلى علمنا أن سلطة الإشراف أحالت ملفنا لكلية الآداب 9 أفريل بتونس للنظر في الأطروحة تبعا للاختصاص غير أنه إلى الآن لم يعرض على لجنة الدكتوراه بهذه المؤسسة لغياب جدية التوجه لدى بعض الخصوم في إعطائنا حقنا الذي كفله لنا القانون.

واقع مؤسف يتطلب تطبيق القانون على من يواصل تعطيل ملفنا وتحميله المسؤوليات الإدارية والجزائية ذلك أن الدولة القوية والعادلة والتي بشر بها حراك 25 يوليو/تموز لا يمكن أن تكون ممكنة في تغافل أعلى سلطاتها عن مثل هذا التنكيل بالباحثين وعن غياب إنفاذ أحكام القضاء وإيقاف تلاعب الخصوم بحيثيات ووقائع الأحكام.

س: أي أفق لهذه القضية؟ ما العمل لتنفيذ أحكام المحكمة الإدارية؟ ما هي الخطوات القادمة التي ستقوم بها بحثا عن حقك؟

ج: إن إصلاح التشريعات يقتضي المسارعة بتقديم مشروع قانون للبرلمان لنشر مجلة "القضاء الإداري" التي ستعوض قانون المحكمة الإدارية الحالي الذي يعود إلى سبعينات القرن الماضي وذلك بما يضمن تنفيذ الأحكام الصادرة ضد الإدارة في آجال معقولة ويوضح الإطار القانوني والترتيبي الصريح الذي ينظم إجراءات التنفيذ ويحدد شروط إنفاذ نصوص وحيثيات أحكامه.

كما يجب على المشرع فرض غرامة لصالح المتحصل على الحكم عن كل تأخير في التنفيذ يتحملها الموظف المسؤول على تعطيل تنفيذ الأحكام الإدارية، مع تحميل المسؤولية الفردية وتسليط عقوبات زجرية سالبة للحرية وخطايا مالية على الممثل القانوني للإدارة الذي ثبت عليه تعطيل تنفيذ الأحكام الإدارية، ذاك ما ننتظره من إصلاحات لوقف هذا التسلط المتزايد من الإدارة ومن تغول سلطتها التنفيذية. وفي انتظار ذلك لا بد من مواصلة نضالنا لفرض حقنا الدستوري والقانوني في تنفيذ الأحكام القضائية، فعلى الرغم من أني على أبواب تقاعد، وعلى الرغم من عدم احترام الإدارة لما قمت به لما يقارب 35 سنة من جهد في نشر المعرفة بين أبناء الوطن، وعلى الرغم من تواصل الصمت المرعب من الخصوم تجاه المظلمة المسلطة على مساري العلمي والمهني، فإني لا زلت متمسكا بحقي في مناقشة أطروحتي التي صدر فيها لصالحي أحكام وقرارات باتة من القضاء. كما أني في انتظار تدخل من السيد رئيس الجمهورية الذي وصلت مصالحه كل مؤيدات الملف بوصفه المسؤول الأول عن تنفيذ الأحكام القضائية تبعا للدستور لإيقاف هذا التنكيل بالجامعيين وإعلاء سلطة الدولة الراعية للقانون والضامنة للحقوق وللمحاسبة.