فدائي ترمسعيا والعودة إلى المسألة الفلسطينية

ينتظر المنتفعون الهدوء ليخرجوا ويحصدوا غنائم التضحيات الحقيقية.
منتصر شلبي رجل أعمال عمره أربعة وأربعون عاما غني نسبيا ويملك جنسية أميركية
انشدت الأنظار نحو فدائي ترمسعيا ومالت الموازين لصالحه. لقد انتخب الشعب ممثله الشرعي الوحيد
القدس هي أم البدايات وأم النهايات وما بينهما من ملاحم

لم تبدأ الحكاية من حاجز زعترة الاحتلالي الذي يعملُ على إذلال الفلسطينيين، الذاهبين شمالًا أو العائدين من الجنوب. يقعُ حاجز زعترة في منتصف الحدث أو في نقطة ما، لكنه ليس المبتدأ بل الخبر وزميله المضاف إليه، البداية كانت من القدس؛ من باب العامود، وباب الزاهرة، والشيخ جراح حيث تطل ملامح نكبة جديدة أو بالأحرى إعادة تفعيل حدث النكبة الكبرى. القدس هي أم البدايات وأم النهايات، وما بينهما من ملاحم.

أُلغيت الانتخابات التشريعية والرئاسية بذريعة عدم القدرة على تنظيمها في القدس بسبب رفض الاحتلال؛ إذ رفض الاحتلال فانصاعت السلطة الوطنية الفلسطينية وكذلك الفصائل الفلسطينية وابتهجت، فهي في الأصل لم تكن تريدها، كونها ليست أهلًا للمنافسة بعد أن تبعثرت وتكلّست وتعوئلت وتبزنست. إذًا، أُلغيت الانتخابات بانتظار حكومة جديدة في كيان الصهاينة تُقرّر إجراء الانتخابات الفلسطينية من عدمه! ما يعني أنّ الديمقراطية الفلسطينية رهينة الاحتلال، كما كل شيء آخر، وعليه، أُغلقَ باب الأمل في التغيير الديمقراطي، ليس للأشخاص فقط، بل لنمط الحياة المهادن المتعايش مع الاحتلال.

تكهّن البعض بالفوضى، وسعى آخرون إليها، وهدّد البعض بها، وشكا البعض حالنا للاتحاد الأوروبي، ظنًا أنه معنيٌ برُقينا واستقلالنا! خُونَ من قام بهذا الفعل، وفي حمأة التخوين أُطلقَ على بيته النار، فثار فريقان يتنازعان حول الحقيقة ويبتعدان عن الحق. في تلك الأثناء كانت القدس تشتعل، كانت عيونٌ تبكي، ونساءٌ تُسحل، وعائلات تُطرد من بيوت الآباء والأجداد. أليست قضية القدس التي أجّلت الانتخابات، أو كانت ذريعة تأجيلها او إلغائها؟ أليست لمعركتها الأولوية؟ أليست "القدس موعدنا"؟

كثيرة هي الشعارات التي تدغدغ المشاعر بذكر القدس، لكن زمن الشعارات قد ولّى. قدمت السلطة الفلسطينية شكوى إلى محكمة الجنايات الدولية، وها قد أُضيفت قضية جديدة إلى جرائم الصهيونية، لكن العائلات ستُهجّر قبل أن يفتح أحدٌ الملف، قبل أن يوقع قاضي حُكمًا، سوى في محكمة الاحتلال وقطعانه. هدد قائد هيئة الأركان في كتائب القسام محمد الضيف بأن المسّ بشعبه يُعدُّ مسًا بالكل الفلسطيني، الأمر الذي قد يقود إلى معركة.

في زاوية أخرى من المشهد، نجدُ رجلًا فلسطينيًا أميركي الجنسية، ترمسعاوي المولد والمسكن، جُبل من طينة الأرض وقُدَّ من صوّانها، رأى كل الظلم الواقع على شعبه، فاستفزه حتى أثخنَ في قلبه جرحًا، ثارت حميتهُ فثار، أطلقَ النار عند حاجز زعترة الاحتلالي على مجموعة من قطعان المستوطنين؛ أصابهم بين جرحى وقتلى، وأصيب بدوره وغادر المكان مسرعًا.

انقلبَ المشهد، وفي غمرة الحدث لم تعد الانتخابات هي المسألة، لم يعد الاتحاد الأوروبي وتهديداته وتحذيراته وأمواله هي المسألة، انشدت الأنظار نحو فدائي ترمسعيا، ومالت الموازين لصالح الفدائي. لقد انتخب الشعب ممثله الشرعي الوحيد، الذي كان قد انتخبه سابقًا وهو يحملُ بندقية. ها هو ينتخبه من جديد دون صندوق للأوراق، بل بصندوق ذخيرة. وبعدما ظهر الممثل الوحيد، اختفى الممثلون الكومبارس، غادروا أو تواروا، وسيعودون عندما تهدأ الريح كي يحصوا الغنائم بعد أن تركوا الجبل قبل عقدٍ ونيف. ستعود فصائل رام الله تنتظر أموال المقاصة مع التمني بأن لا يبتزّنا الاحتلال فتنقص، وبالتالي يقلُّ من حياتنا بعض الرفاهية. وستعود فصائل غزة تنتظر الحقيبة وسيطير نداف أرغمان كي يأتي بها على بساط الريح، كي لا تتطاير البالونات المتفجرة فتحرقُ زرعًا، فينتقم المستوطنون من حكومتهم الرعناء على تأخير إدخال الأموال.

منتصر شلبي، الذي يحمل في اسمه معنى الانتصار، هو المنتصر على الذل، ويحمل في اسمه الجمال فهو شلبي في زمن القبح الذي نعيش فيه فسادًا وذلاً وانقسامًا وهوانًا. يذكر تقرير الأمن الصهيوني أنّه "نفّذ عمليته متأثرًا بما نشر من أخبار حول أحداث القدس، لا ينتمي لأي تنظيم لكن هناك شكوك أنه يتبع لحماس. نفّذَ عمليته بشكل فردي، واشترى السلاح من ماله، خاصةً وهو الثري نسبيًا. وصلَ بمركبته للمكان وأطلق عدة رصاصات في غضون 3 ثوان ونصف، جنديان أطلقا النار تجاه سيارته ما أدى إلى إصابته بجروح طفيفة. ورغم إصابته وملاحقته، تمكّن من التنقل من مكان إلى آخر بمساعدة أقربائه وأصدقائه. لحظة اعتقاله لم يقاوم، بل خرج بنفسه للجنود بعد إحاطتهم لمنزل أقربائه في سلواد وهو يرفع يديه. نُقل للعلاج أمس، وبعد ذلك بدأ التحقيق معه، والذي يركز فيما إذا كان هناك أشخاص ساعدوه، وما الذي دفعه لتنفيذ العملية، خاصةً وأنّه رجل ثري. منذ بدء ملاحقته، شكّل جهاز الأمن الداخلي الصهيوني "الشاباك" فريقًا خاصًا تأكد أنه نفذ العملية لوحده، لذلك تركزت العملية في ملاحقة أقاربه. كان يعلم "الشاباك" مكان السيارة منذ اللحظة الأولى، ولم يتدخل لأنه كان يريد كشف مكانه، بانتظار أي شخص مقرب منه يأتي لنقلها وكشف مكانه، إلا أن كشفها من قبل الفلسطينيين، ثم إحراقها تسبب بإفشال الخطة.

وعليه، عند تلخيص حكاية هذا الفلسطيني الأميركي، نجد التالي: لم يكن الرجل يائسًا، لم يكن أعزبًا بلا عائلة، لم يكن فقيرًا، لم تكن الدنيا مغلقة في وجهه كما كان يُروّج عن الفدائيين من الشباب في انتفاضة السكاكين – وما قبلها – التي جففت منابع سكاكينها فانتهت. كان رجل أعمال، عمره أربعة وأربعون عامًا، غني نسبيًا، ويملك جنسية أميركية تسمح له بالسفر كي يجوب العالم. شاهد إذلال شعبه، فلم يستسغ الأمر، فقرر الثورة. شخص واحد في لحظة صدق وصفاء مع الذات، اتخذ قراره ومضى، لعنَ الفصائل؛ كل الفصائل والسلطتين، ومضى. سيستغرق الأمر من العدو دراسات وتحليلات وأسئلة، لكن سيبتعدون عن الإجابة التي يعرفها كل شعب عاش الاحتلال وقاوم، وكل محتل رحل مندحرًا يجلله العار بفعل المقاومة.

لماذا فعل هذا الفدائي ما فعل؟ الجواب: أينما وجد الاحتلال، وجدت المقاومة. لا يُمكن لشعب أن يتحرر بالأمنيات، ولا توجد معارك تُكسب بالدعوات، التحرر فعل وإرادة. المؤكد أن العملية لن تكون الأخيرة، فطالما هناك احتلال ستكون هناك مقاومة، هذه معادلة ثابتة لن تتغير، وطالما هناك أحرار، هناك سعي للحرية. وإذا كان خيار المفاوضات لم يجلب إلا الذل، فلا مناص من المقاومة مهما كانت التكلفة، فالذل والخنوع والخضوع لإرادة المحتل عار لا يتحمله الأحرار.