الصهيونية وثقافة النخب الاورأميركية

ما الذي يجعل الكاثوليكي جو بايدن صهيونيا إلى درجة التفاني.
كل من يعترف بحق للصهاينة في أرض فلسطين هو صهيوني بغض النظر عن اي اعتبار
لو لم تكن أغلبية سكان فلسطين من المسلمين، لما حصل هذا التفاهم اللامنطقي بين الاضداد

هل كان تصريح الرئيس الأميركي جو بايدن عند وصوله دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة بأنه صهيوني أمرًا جديدًا؟ ‏المُطلع على حقيقة الصهيونية وتاريخها ونشأتها لم يتفاجأ، فالصهيونية بدأت مسيحية بروتستنتية قبل ظهور ‏الصهيونية العملية بأكثر من أربعة قرون من الزمان. حصل ذلك في القرن السادس عشر تحديدًا، مع ترجمة كتاب ‏العهد القديم إلى الألمانية ومنها إلى اللغات الأوروبية الأخرى، ودمجه بالعهد الجديد. والمصطلحان، أي العهد القديم ‏والعهد الجديد، يعبران عن كتب اليهودية وكتب المسيحية المُدمجة مع التوراة والأناجيل. لقد جعل هذا الدمج ‏مجموعة الكتب المسيحية واليهودية تبدو دينًا واحدًا. فالمسيحي حتى يصل إلى أفكار عيسى وبولس وما قالاه أو كتب ‏نقلًا عنهما من خلال أتباعهم، عليه أن يدخل في مرحلة من التهوّد شاء أم أبى. فأنبياء وحكماء التوراة هم الذين ‏يسيطرون على أغلب كتب العهد القديم، ومع وجود عديد التناقضات بين طيات الكتاب وبين النظرة المسيحية لأرض ‏فلسطين بوصفها أرضًا للميعاد بأن العهد الجديد بوراثة الأرض والقيم الإلهية من اليهود إلى المسيحيين، حيث أن ‏التعريف البروتستانتي لبني إسرائيل هو أنهم مسيحيي اليوم لا اليهود الذين رفضوا أتباع دين عيسى، وهم آثمون ‏ومصدر كل شر، بحسب أقوال المسيح أبناء إبليس، والخلاف المستحكم بين الديانتين حول ظهور المسيح القادم في ‏مجيئه الأول حسب اليهودية، ومجيئه الثاني حسب المسيحية، فإن هذا التناقض الديني، ألغي لدواع سياسية دولية، ‏أميركية خاصةً، عندما اتفق حكماء الصهيونية من الطرفين، المسيحي البروتستانتي واليهودي، على العمل لدعم ‏استمرار بقاء دولة الصهاينة عام 1969، وتعليق الخلاف حول المسيح القادم، بمعنى التحضير لمجيئه بغض النظر ‏عن قدومه للمرة الأولى أو الثانية. باختصار اتفق الطرفان على قاعدة تقول "لنعمل ونرى"، وبذلك رُفع ملف المسيح ‏وهو الملف الذي يتفق الطرفان الصهيونيان على أنه الجامع بينهما على الرف.‏

إذًا بين الحلم المسيحي الصهيوني بمسيح يظهر للمرة الثانية ويقود معركة هرمجدون ضد الكفار الذين هم المسلمون ‏واليهود وآخرين، وينتصر عليهم ويجعل كل الخلق مسيحيين ومن يرفض يُقتل، وبين حلم يهودي صهيوني بمسيح يهودي ‏سيظهر لأول مرة، هو المسيح ابن يوسف الذي سيقود معركة اليهود لإعادة عرشه على أرض فلسطين، وبذلك يحكم ‏اليهود من القدس العالم ويستولون على كل ذهب الأرض ويجعلون أمم "الغوييم" جميعها عبيدًا بحسب نصوص ‏التلمود. وفي الفكر الأنجيلكاني البروتستانتي، الصهاينة اليهود هم وقود محرقة لدى الصهاينة المسيحيين لتحقيق ‏المجيء الثاني للمسيح ابن مريم، بينما يرى الصهاينة اليهود في المسيحيين الصهاينة خيلًا يركبونها للوصول إلى أهدافهم ‏بالاستيلاء على أرض فلسطين وبناء دولة اليهود الكبرى وعندما يتحقق ذلك تتم إبادتهم. إنها معادلة مجنونة إلا أنها ما ‏يُحرك الطرفين، طالما هناك طرف ثالث يمتلك أرض فلسطين، ولا يهم إن كان هذا الشعب هو شعب السيد المسيح ‏وطنًا وعرقًا؛ أي الشعب الفلسطيني. ‏

إن ما يوحدهما؛ أي الصهاينة مسيحيين بروتستانت ويهود، هو أن أغلبية سكان فلسطين من المسلمين، ولو كان الأمر ‏غير ذلك ما حصل هذا التفاهم اللامنطقي بين الاضداد.‏

لو كان بايدن بروتستانتيًا لتفهمنا الأمر. فالمعروف أن البروتستانت هم أساس الصهيونية منذ مارتن لوثر مرورًا بكالفن، ‏والتطهيريين "البيوريتان" والأنجليين واللوثريين والمعمدانيين وشهود يهوه وغيرهم، الذين يتفوقون على الصهاينة اليهود ‏في صهيونيتهم. لكن أن يجهر كاثوليكي بصهيونيته فذلك يُمثل تحولًا! قد يبدو الأمر كذلك نظرًا لرفض الفاتيكان ‏والكنيسة الكاثوليكية قديمًا الاعتراف بأي حق لليهود في أرض فلسطين، وأن الوعد المشار إليه في التكوين والخروج هو ‏عهد انتهى مع ظهور السيد المسيح عيسى بن مريم. إذًا ما الذي يجعل كاثوليكيًا مثل بايدن يجهر بصهيونيته؟ يجب أن ‏نستذكر هنا أن نابوليون بونابرت الكاثوليكي، بعد هزيمته في عكا عام 1799، دعا أيضًا لإقامة دولة لليهود في فلسطين ‏لتكون عائقًا أمام توحيد العرب والمسلمين في دولة واحدة. إذًا عندما يتعلق الأمر بالاستراتيجيات الدولية المعادية ‏للعرب والمسلمين يصبح كل الغربيين، بل الشرقيين حتى من الأوروبيين، صهاينة. تتطابق في ذلك مواقف فرنسا ‏الكاثوليكية وبريطانيا البروتستانتية وروسيا الأرثوذكسية، لا فرق إلا في درجة العداء لحقوق الشعب الفلسطيني. ‏

إنها المصالح الدولية تتلحفُ بغطاء ديني لتبرير الهدف والحشد خلفه، وربما أراد الرئيس بايدن الكاثوليكي الديانة ‏الحفاظ على حياته ومنصبه من خلال هذا الجهر، إذ أن أول رئيس كاثوليكي وهو جون كنيدي قد فقد حياته بمؤامرة ‏صهيونية، إذ أشارت إحدى الوثائق السرية المنشورة حديثًا إلى زيارة المتهم الرئيس في عملية اغتيال كينيدي لي هارفي ‏أوزوالد إلى الكيان الصهيوني عام 1962. وما عزز هذا الشك هو ما جاء في وثيقة سرية نُشرت مؤخرًا بشأن زيارة جاك ‏روبي، قاتل أوزوالد، إلى إسرائيل في الفترة 17 أيار/مايو -7 حزيران/يونيو 1962، بصحبة زوجته. هذه إحدى ‏المؤشرات، فقد كان كيندي يسعى أيضًا لحل دائم للقضية الفلسطينية ولا يريد إسرائيل نووية، وهو ما أعرب عنه ‏بايدن كذلك، فقد صرح إنه ما زال مقتنعًا أن الحل الوحيد هو إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من ‏حزيران/يونيو 1967 الى جانب دولة إسرائيل، ووصف مدينة بيت لحم مهد السيد المسيح على أنها مدينة ‏فلسطينية، وهذا يتناقض مع مقولات الصهيونية المسيحية واليهودية، بل ثمة تسريبات صحافية (مقال للكاتب ديفيد ‏سينجر) عن رفض بايدن لمبادرة سلام سعودية جديدة تدعو لدمج ما تبقى من الضفة الغربية وقطاع غزة مع الأردن ‏فيما سُمي بالمملكة الفلسطينية الهاشمية، وإصرار الأخير على دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، وهذا إن دل ‏على شيء فإنه يدل على إخلاص بايدن لسياسات سلفه أوباما الذي دعم دولة الصهاينة في مجالات الأمن والاقتصاد، ‏ولكنه تمسك بحل الدولتين حتى آخر دقيقة من إدارته عندما مرّر قرارًا لمجلس الأمن الدولي حمل الرقم 2334، يدين ‏الاستيطان الصهيوني وتوسعه وأعاد ضخ الأموال إلى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا".‏

من الصعب فهم تصريح بايدن، لكن من المعروف أن الحفاظ على أمن دولة الصهاينة هو ركن أساسي من أركان ‏السياسة الأميركية بعد حرب العام 1967، وكل من حكم الولايات المتحدة بعد هذا التاريخ كان صهيونيًا فعلًا وقولًا. ‏الصهيونية ليست مبدأ وقولاً فقط، إذ بغض النظر عن القناعات المسيحية البروتستانتية في تفسير كتابي العهد ‏القديم والجديد، والتفاسير الدينية اليهودية المختلف عليها بين الطوائف اليهودية حول أيهما يجب أن يسبق الآخر ‏المسيح أم دولته، فإن كل من يعترف بحق دولة الصهاينة في الوجود على أرض فلسطين، ويعمل على استمرارها وحمايتها ‏ودعمها، هو صهيوني بغض النظر عن دينه أو أيديولوجيته أو عرقه أو قوميته، وهو بذلك شاء أم أبى يدعمُ نظامًا ‏استعماريًا إحلاليًا، يُمارس سياسة التطهير العرقي وجرائم الحرب والعدوان والجرائم ضد الإنسانية، وسياسات ‏الفصل العنصري "الأبارتهايد" وغيرها من السياسات والأفعال المدانة بحسب ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي ‏الإنساني، وينطبقُ ذلك على العرب والمسلمين، بل وحتى النشاز من الفلسطينيين.‏