فلسطين كاملة من المستحيل إلى الممكن

يجب التخلص من ادران اتفاق أوسلو الذي كاد أن يخنق الحركة الوطنية الفلسطينية وينهيها.
ثورة على الأسرلة والتمييز العنصري بحق مليوني فلسطيني
انتفاضة الداخل لفتت الانتباه إلى قضية كل فلسطين من النهر إلى البحر
هزيمة الصهيونية كحركة استعمارية عنصرية تكمن في تحقيق السلام

عندما تسجل أحداث الإحدى عشر يوماً من العدوان على غزة فيما سمي صهيونياً "حارس الأسوار" وسمي فلسطينياً "سيف القدس" ومرادفتها الأعم والتي شملت الوطن الفلسطيني من النهر إلى البحر "أنتفاضة الشيخ جراح واللد" فإن ما سيلفت المؤرخ أو الباحث هو انتفاضة الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 التي كانت المفاجأة القنبلة التي سمع دويها في كل مكان ودقت ناقوس الخطر حول مصير الكيان العنصري الصهيوني، واستمراره كما تريد له أن يكون دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، دولة يهودية.

الخطير في أنتفاضة الداخل أنها في جوهرها ثورة على الأسرلة والتمييز العنصري الذي تمارسه سلطات الاحتلال بحق مايقارب اثنين مليون من أبناء الشعب الفلسطيني، وهم السكان الأصليين لفلسطين الذين ظلوا في مدنهم وقراهم بعد نكبة العام 1948، ولم يستطع العدو الصهيوني تهجيرهم من أماكن سكناهم، أو أولئك الذين هُجروا إلى مدن مجاورة قريبة ولم يسمح لهم بالعودة إلى بيوتهم، إذ مازالوا رغم مرور ثلاثة وسبعين عاماً لاجئين في وطنهم مع أن بلدات كثير منهم تقع على مرأى عيونهم، لكنهم لايستطيعون العودة إليها والعيش فيها.

ثلاثة وسبعون عاماً هي عمر تنفيذ القوى الاستعمارية الغربية مشروعها الأستعماري الإحلالي من خلال "وعد بلفور" أولاً، ومباركة وتصديق شرعي من قبل عصبة الأمم المتحدة (مؤتمر سان ريمو) وهيئة الأمم المتحدة ثانياً، ليصبح الكيان دولة معترف بها عالمياً وفق قرار تقسيم فلسطين 181/1 وفي بداية الثمانينات نالت اعترافاً عربياً مصرياً منفرداً (كامب ديفيد) وللأسف (قيادياً) فلسطينياً في اتفاق أوسلو في بداية التسعينيات من القرن العشرين.

لقد حولت هذه الاعترافات قضية الشعب الفلسطيني من قضية شعب وطنه برمته تحت الأحتلال أي 27 ألف كيلو متر مربع إلى مشروع فلسطيني (منظمة التحرير) وعالمي (الأمم المتحدة) يدعو إلى إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة الصهاينة عبر التفاوض، وللأسف فقد وقعت قيادة المنظمة في المصيدة وتحت شعارت التكتيكي والمرحلي أنتقلت منظمة التحرير منذ عام 1974 مروراً بالثمانينات (1982) التعاطي مع مشروع ريغان حول الكونفدرالية مع الأردن إلى اتفاق أوسلو عام 1993 التي جعلت قضية فلسطين، قضية نزاع حدود فأخرجت القضية من جوهرها، رغم إصرار المنظمة تصريحات وقرارات أن تطبيق حق العودة 194 هو موضوع على طاولة البحث بعد إقامة الدولة، ضمن صيغ غامضة وتطبيقات لها علاقة بالأعداد والتفاوض على عودتهم بموافقة الدولة المحتلة.

بتلك الاعترافات تم قوننة الاستعمار الصهيوني وجعله صاحب حق شرعي، وهو الذي يتكرم بما يستطيع تقديمه من فتات لأصحاب الأرض الأصليين، كل ذلك تحت مسميات عملية التسوية التي تعني لغوياً تسوية حقوق بين طرفين متانزعين على الملكية وهو بحد ذاته جريمة أخلاقية وسياسية، تلك التسوية التي لم تنتج شيئاً يوى مزيد من الاغلال في معصم الفلسطيني حيث ظل فيها العدو طليقا في فعل ما يريد والفلسطيني حبيساً لما وقع عليه ولم يلتزم به العدو، وهنا تحول الاتفاق المؤقت في أوسلو وحتى بعد انتهاءه رسنيا عام 2000 إلى أتفاق مؤبد وأصبحت السلطة والحفاظ عليها وتقويتها اهم من تحرير الأرض لدى شريحة قيادية فلسطينية مسيطرة، والسلطة دون دعم الصهاينة وموافقتهم على تحويل المال وجبي الضرائب لا تستطيع الاستمرار يوماً، لذلك وامام معارضة الوطنيين فصائلاً ونخباً سياسية على استمرار جلوس القيادة السياسية داخل مصيدة أوسلو والضرر الكبير الذي لحق القضية الفلسطينية شكلاً وجوهراً، اتخذت المجالس الوطنية والمركزية عديد القرارات لإلغاءه إلا أن شيئاً لم يحصل، لذلك حدث الشلل، والتصدع، وتحولت القضية الفلسطينية إلى قضية اقتصادية وتسهيلات حياتية لن تمنح الفلسطيني إلا طوق نجاة إنساني بالعيش ضمن قوانين الاحتلال ومبادراته تخفيفا وتضييقاً وخنقاً وهو ما عبرت عنه بنود "صفقة القرن".

لكن جاءت انتفاضة الداخل لتغير المسار وتلفت الانتباه إلى أن القضية ليست فلسطينيي العام 1967 وحقوقهم وانشاء دولة لهم، بل القضية كل فلسطين من النهر إلى البحر، ومع مظاهرات الشعب الفلسطيني في مخيمات اللجوء خارج الوطن وبلاد الاغتراب أعيدت القضية الفلسطينية إلى جوهرها قضية وطن بأكمله تحت الاحتلال وأصحاب أرض وحقوق مازالوا يتمسكون بتحريرها وعودتهم إليها.

وفي خضم هذه الرؤية التي كشفتها الأحداث التقط العالم صورة هول المأساة، التقطتها الشعوب الحرة أولاً، والحكومات ثانياً وتمثل واقع النكبة امامهم من خلال مأساة ترحيل عائلات الشيخ جراح في القدس، هؤلاء الفلسطينيون الذين اقتلعتهم العصابات الصهيونية من بيوتهم ومدنهم عام 1948 وحولتهم إلى لاجئين في وطنهم في مناطق ما يعرف بـ 1967.

العالم يتقدم في فهم واقعنا داخل كل فلسطين من نهرها إلى بحرها، وعلى القيادة السياسية الفلسطينية أن تتقدم وتتحرر من اثقالها أو تسلم الراية تدريجياً وعبر عملية ديقراطية أو توافقية للجيل الجديد الذي يعرف كيف يتعامل مع أدوات العصر الحديث سياسة وتكنواوجيا ورأي عام وما حركة مقاطعة إسرائيل BDS إلا دليلاً ساطعاً على ما يستطيع الشباب فعله متى أمتلكوا زمام المبادرة.

ومن الملاحظ أن انتفاضة فلسطين كل فلسطين وجدت صداها حتى في الأوساط الدولية والأممية فلأول مرة في تاريخه يشكل مجلس حقوق الإنسان لجنة للتحقيق في ممارسات سلطات الاحتلال تشمل فلسطيني الداخل المحتل عام 48 مع باقي اشقاءهم في مناطق عام 67 أي أن القرار يشمل كل فلسطين، ولأول مرة نسمع وزير خارجية فرنسا يتهم دولة الاحتلال بممارسة سياسة الفصل العنصري، حيث قال لودريان خلال مقابلة صحفية مع محطة "آر.تي.إل" الإذاعية وصحيفة "لوفيغارو"، "في حال وجد في المستقبل حل مغاير لحل (إقامة) الدولتين سنكون أمام وصفة لفصل عنصري مزمن". وكانت قد سبقته، منظمة هيومن رايتس ووتش التي وصفت دولة الصهاينة بدولة تمييز عنصري وابارتهايد، واقر برلمان ايرلندا أن إسرائيل ارتكبت جرائم تطهير عرقي (جينوسايد) وجرائم حرب وجريمة الاستيطان غير الشرعي، وتعالت الأصوات في الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الأميركي (حزب الرئيس بايدن) الذي اتهم اعضاءه دولة الصهاينة بالعنصرية وهذا ما جعل الكاتب اليهودي الأميركي الصهيوني الميول توماس فريدمان الكاتب قي صحيفة نيويورك تايمز يدق ناقوس الخطر ويكتب" إنه بات من الواضح بعد 11 يوما من ’الحرب بين إسرائيل وحماس‘ أنه ما لم يتم الحفاظ على إمكانية التوصل لحل الدولتين فإن واقع الدولة الواحدة الذي سيحل مكانه لن يؤدي إلى تفجير الوضع في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة فحسب، بل قد يفجر الحزب الديمقراطي الأميركي وكل المنظمات والكنائس اليهودية في الولايات المتحدة أيضا."

كثيرة هي المواقف التي سجلت بعد هذه الانتفاضة الفلسطينية الشاملة والتي تقود إلى طرح مشروع فلسطين كاملة، فلسطين التي تناضل مجتمعة ضد سياسات الفصل العنصري، والتطهير العرقي، والعنصرية، وجرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية، فلسطين كاملة تحت الاحتلال هي حقيقةً وليست شعاراً، فلسطين كاملة في مقاومتها للاحتلال هي أيضا واقعاً وليس خيالاً.

لذلك يجب التخلص من ادران اتفاق أوسلو الذي كاد يخنق الحركة الوطنية الفلسطينية وينهيها مرة وإلى الابد، وقد جعلت افرازاته فلسطين غير فلسطين التي نعرف والتي أصبحت حدودها فقط مناطق الضفة الغربية بل اكثر من ذلك حدودها ما يسمح به العدو من مناطق الضفة الغربية. وعليه فالحل يكمن في العودة للمنطلقات الأولى لفلسطين كاملة، وفلسطين كاملة تعني العودة للميثاق الوطني الفلسطيني أي إلى الأصل.

العودة إلى الميثاق لا تعني دعوة لانقلاب على المنظمة وقيادتها، بل تعني عودة المنظمة إلى نفسها وركل سياسات المرحلية بعيداً عن العقل الفلسطيني، فإذا كان التكتيك الفلسطيني يقضي بدولة عام 1967 ومن ثم عودة اللاجئين إلى ديارهم بالداخل في أراضي عام 1948 فإن التغيير الذي حدث اليوم يعجل في مثل هذه الخطوات ولكن بتجاوزها نحو دولة فلسطين كاملة من خلال تحويل الصراع مع المحتل إلى برنامج للقضاء على كل جرائمه في كل فلسطين ولتحرير كل الفلسطينيين أينما كانوا من هذه الجرائم، بتبني النموذج الجنوب افريقي وأدواته ووسائله دون استغناء عن وسيلة واحدة من أنواع الكفاح فكلها مشروعة.

يجب تغيير الهدف الفلسطيني من برنامج مرحلي لحدود عام 1967إلى برنامج نهائي لإقامة دولة فلسطينية على كل فلسطين، دولة حقوق ومساواة دون تمييز عرقي أو قومي أو ديني، يعيش فيها كل من يقبل العيش بسلام وعدالة للجميع دون طرد أو ترحيل أحد، وكل ذلك لن يتم إلا بهزيمة الصهيونية كحركة استعمارية عنصرية استعلائية قروسطية متخلفة خارجة عن العصر وقوانينه، وهزيمة الصهيونية هو يكمن في تطبيق ما هو مخالف ونقيض لمبادئها، أي بتحقيق السلام والمساواة والعدالة بين بني البشر.

إذا لم تلتقط القيادة الفلسطينية هذه اللحظة التاريخية فأنها تهدر فرصة تاريخية بل وستتهم لاحقاً بأنها كانت حجر عثرة واداة احباط في هجوم فلسطيني ومبادرة فلسطينية مستحقة لاحداث التغيير، وهذا ما سيجعلها لاحقاً هدفاً للهجوم من الحركات الطلائعية الشبابية الصاعدة والتي برهنت الأيام القليلة الماضية أنها من يقود الجماهير ويحركها نحو هدف فلسطين كاملة.

فلسطين كاملة ليست وصفة سحرية بل هدف واقعي اذا تخلص بعضنا من الأوهام وأولها وهم حل الدولتين الذي تحول إلى مصيدة أحتلالية خنقتنا واضاعتنا وكبلتنا.