فصل جديد في ليبيا

الغطرسة التي تمارسها تركيا ستواجه بمثلها من الآن فصاعدا.
جسم أمني مفتعل يسمى الحرس الوطني لوضع فيتو أمام وقف النار
قدر من الاستعراض المبالغ فيه حد السذاجة في زيارة وزير الدفاع التركي لطرابلس
كل ما مضى من فصول سياسية وأمنية لن يضاهي الفصل العسكري الجديد، فقد حضرت الفكرة

قدم المسرح السياسي المصري العديد من الأعمال الخالدة، واقترب من قضايا مهمة وكان جادا في طرح أفكاره فنيا، ومنطقيا في المعالجة السياسية. لم يتخيل المرء أن يشاهد نمطا مجسدا من مسرح العبث في الواقع، كما هو حاصل الآن في ليبيا، حيث تشعر أن عددا من الأطراف الرئيسية في الأزمة تقوم بأدوار مرسومة لها في الانخراط وعدم المبالاة، وتحرص على التجويد لقضم جزء من الكعكة.

يهتم هؤلاء باللقطة أكثر من اهتمامهم بالأزمة، فكل من شاهد الصور والتصريحات التي بثتها وسائل إعلام مختلفة لزيارة خلوصي أكار وزير الدفاع التركي، ورئيس أركانه يشار جولر لطرابلس، يومي الجمعة والسبت، يجد فيها قدرا من الاستعراض المبالغ فيه يصل حد السذاجة، وحتى لو كان نوعا من جس النبض للمدى الذي يمكن أن تبلغه أنقرة فليس بالطريقة التي توحي أن ليبيا مستعمرة وتحت سيطرة الحاكم التركي وتم استردادها ولن يتم الخروج منها إلى الأبد.

قبل أن تصل هذه الرسالة لكثيرين جرى تدمير قاعدة الوطية وما بها من معدات عسكرية تقنية، في إشارة جادة تفيد بأن مسرحية تركيا ستدخل فصلا جديدا، والغطرسة التي تمارسها ستواجه بمثلها من الآن فصاعدا، وعليها أن تتحمل التكلفة الباهظة، لأن وجودها غير مرغوب فيه من قبل أطراف مهمة. ولذلك بدا رد فعلها حذرا كأنها استوعبت الرسالة ودروسها.

إذا كان الجيش الوطني الليبي نفذ الضربات التسع التي دمرت قاعدة الوطية، فمعنى ذلك أنه يمتلك مخزونا تكنولوجيا عاليا، حيث أجهز على كل الرادارات التي نصبتها تركيا وأثبت فشلها في تعطيل الطيران الذي قام بالمهمة، وأن هناك إخفاقا مخابراتيا فاضحا، ما يعني تعرض عناصرها والتابعين لها لمزيد من الضربات في ظل هذا التفوق النوعي الذي يمكن الجيش الليبي من قلب الطاولة على خصومه.

أما إذا كان الطيران المجهول المعلوم، كوصف أصبح دارجا في ليبيا، هو من نفذ العملية، فمعنى ذلك أن ثمة عدم رضاء إقليمي ودولي على تحركات أنقرة العسكرية في ليبيا، فالطيران المجهول بالنسبة لنا تمكن من توجيه ضرباته بدقة فائقة القدرة وقام بهذه المهمة على ثقة بأنه يملك الشرعية الدولية في هذا الحق، وأن الفترة المقبلة يمكن أن تشهد ضربات لأهداف بعيدة تزعم تركيا أنها تمثل مصالح حيوية لها، حال أصرت على التمسك بدور البطل على المسرح الليبي.

تبدو خطوات أنقرة كمن يقوم بدور ما، واستثمرت الإجادة في التمثيل لتحويله إلى حقيقة بعد أن وجدت جمهورا من المشجعين لها في الداخل والخارج، وتقمصت أدوارا عدة، متجاهلة قواعد الجغرافيا السياسية، وتوازنات القوى الإقليمية والدولية، ووجدت أن هذا الدور يمكن أن يتسع بما يصعب اقتلاعه.

وهي معتقدة أن الفراغ الحاصل وفائض القوة العشوائي وخداع تيار الإسلام في تقديمها كمنقذ وحليف لليبيين، عوامل كافية لعدم كشف أبعاد المؤامرة التي دخلتها من باب الحرب بالوكالة دون أن تدرك احتمال تغيير موقف الوكلاء في أي لحظة.

قبل هؤلاء بدخول تركيا ضمنيا، وصم غالبيتهم آذانهم عن سماع أصوات الضجيج الذي حدث منذ توقيع مذكرتي التفاهم البحري والأمني في نوفمبر الماضي، وغضوا الطرف عن تراكم نفوذ الميلشيات واعتمد بعضهم عليهم في حماية بعثاتهم، ولم يعبأوا بفلول المرتزقة والإرهابيين وهي تتدفق على ليبيا ووجهوا خطابهم نحو روسيا محملا باتهامات بشأن دور مؤثر تقوم به شركة فاغنر للأمن ونفخوا فيه عمدا. ولم تتوقف معظم الدول الغربية عند قوافل المتطرفين الذين شحنتهم تركيا إلى ليبيا جهارا لتأييد حكومة الوفاق.

ظهرت تناقضات مسرح العبث في الموقف الأوروبي من الإرهابيين الذين يمثلون شوكة في ظهر دول حوض البحر المتوسط مستقبلا، وجرى تجاهل النداءات التي تطالب بالتعامل معهم بحسم ضمن خطط مختلفة تتبناها قوى دولية لمكافحة الإرهاب في المنطقة.

وبدأت حكومة الوفاق تفكر عمليا في استيعابهم ضمن جسم أمني مفتعل يسمى الحرس الوطني كي تضع فيتو أمام وقف إطلاق النار، ويتحول وجودهم لاحقا إلى قنبلة في وجه أي حكومة تريد الأمن والاستقرار وتوحيد المؤسسات الأمنية وفقا لقواعد رسمية، بالتالي تفشيل أي جهود في هذا السياق، ويبقى هؤلاء ضمن الأذرع التي تريد تركيا تكريسها لتعطيل التوافق بين الليبيين حول تفاهمات تستوعب كل الأطياف السياسية.

وصل العبث مداه عندما أخفقت الدول الغربية في فرض وقف إطلاق النار، ودخل حلف شمال الأطلنطي في مشاحنات جانبية أنست دوله الصلف التركي والشرود الذي يمثله أردوغان الذي يهدد الحلف ويضعه على المحك، لأن أنقرة تسببت في شرخ بجدرانه، ولم يستطع تبني موقف لمجابهتها في ليبيا والمتوسط، ومنع تحرشاتها ببعض الدول الأعضاء في الناتو، ما جعلها تعتقد أن وجودها في المنطقة ليس مرفوضا، والسيناريوهات التخيلية يمكن أن تتحول إلى واقع.

عجزت هذه الدول عن تحريك العملية السياسية على قواعد أرساها مؤتمر برلين في يناير الماضي، فالكل يتحدثون عن الهدوء والسلام والاستقرار ويقفون عاجزين أمام متطلباته، ولم يتخذوا خطوات حقيقية تعيد الأطراف الرئيسية لطاولة المحادثات كأن فصول المسرحية توقفت عند حد المناشدات في الوقت الراهن ولم تصل إلى مستوى الفعل الذي يحتاج إلى إرادة غائبة حتى الآن.

هذا يعني العودة إلى سردية الخلل في التوازنات، وما يملكه الطرف القوي من قدرة على فرض حساباته في الأزمة، بما يثير جهات تنتصر للطرف المهزوم.

لن يفضي الإصرار على وضع العجلة أمام الحصان إلى الحل السياسي، وسوف يقود ليبيا إلى مواصلة الدوران في حلقات متباينة صعودا وهبوطا، للدرجة التي توهم البعض ممن يطلق عليهم وصف كومبارس إلى امتلاك الشجاعة أملا في التحول إلى أبطال على مسرح العبث.

فتجد مسؤولا سياسيا أو أمنيا في طرابلس أو كاتبا مرتزقا يهدد ويتوعد ويتقن هذا الدور ليحصل على مزيد من المزايا لدى من منحوه هذه الفرصة، ولا يدرك أن مرحلة قد بدأت، فكل ما مضى من فصول سياسية وأمنية لن يضاهي الفصل العسكري الجديد، فقد حضرت الفكرة.