فلسطين رسالة إنسانية بتوقيع شعب حي

شيء مؤلم أن يحول الإسلام السياسي فلسطين إلى رسالة تنتظر أن يبصمها الولي الفقيه بإبهامه.
لا يليق برسالة فلسطين الى العالم سوى أن تُمهر بتوقيع شعبها العظيم
ماذا يعني استحضار خيبر وجيش محمد وتجاهل ذكر فلسطين في بعض الهتافات
تنظيمات الإسلام السياسي حولت النضال من منحاه الوطني الواسع إلى منحى ديني يضيق برموزه ويستفز العالم

عبر أكثر من سبعين سنة بذل العالم كله، شرقه وغربه وليس إسرائيل إلا عنوانه جهودا جبارة من أجل محو فلسطين من الخارطة السياسية والغاء الهوية الفلسطينية من الذاكرة الإنسانية ولم ينجح في تحقيق واحد بالمئة من أهدافه. وقد يكون "الإسلام السياسي" هو آخر واجهة لتلك الجهود بالرغم من أنها الأكثر خطورة من بين كل الواجهات.

فتنظيمات الإسلام السياسي وإن كانت تمول من الخارج ومن هناك تتلقى تعليماتها غير أنها نمت في الداخل واتخذت من الدين قناعا وحولت مسار العمل النضالي من أجل التحرير لدى الكثيرين من منحاه الوطني الواسع إلى منحى ديني يضيق برموزه ويستفز العالم بانغلاقه وتعصبه. وهو ما استفادت منه إسرائيل والدول والقوى المناصرة لها من جهة كونه برهانا على ارتباط قوى المقاومة الفلسطينية بالدول المتهمة سراً وعلانية بتمويل الارهاب ورعاية جماعاته "الجهادية".  

لقد قاوم الفلسطينيون عدوهم المحتل عبر عقود من الزمن باعتبارهم أصحاب حق تاريخي كانت فلسطين عنوانه ولم تكن هناك مسافة تُرى بين فلسطيني وآخر تبعا لهوية دينية أو عقائدية. وإذا ما كانت سياسة المحاور العربية قد أضرت كثيرا بالقضية الفلسطينية فإن فكرة وفعل المقاومة ظلا قائمين وصامدين عند الحدود المرئية التي اعترف العالم بخذلانه أمامها بسبب اخلاص الفلسطينيين لمبدأ المقاومة الخالي من المنفعة الحزبية، المنزه عن المصالح الفئوية المرتبطة بأجندة هذه الدولة أو تلك.

وعبر سنوات نضاله الشاقة تعرض الشعب الفلسطيني لمجازر تنافس على ارتكابها الأشقاء قبل الأعداء. كلها حدثت بسبب حرص التنظيمات المقاتلة على استقلالية قرارها الوطني ورفضها لمحاولات الاحتواء وتحويلها إلى دكاكين وشركات صغيرة تتاجر ببضاعة اسمها فلسطين. وكما قال الشاعر محمود درويش في إحدى قصائده "كانت تُسمى فلسطين/ صارت تُسمى فلسطين" بقيت فلسطين هي العنوان الواسع الذي يضم كل الفلسطينيين بغض النظر عن عقائدهم الدينية والسياسية وأفكارهم المدنية. كانت فلسطين هي موهبتهم الداخلية التي يتغذى عليها خيالهم.

كان حرص الفلسطينيين على أن تكون فلسطين موضوعا جامعا يساوي اخلاصهم لهويتهم الفلسطينية التي هي هوية حضارية إنسانية عابرة للأديان والقوميات والعقائد. وكان واضحا بالنسبة ليهود العالم أن الفلسطينيين لا يحملون أي حقد أو ضغينة أو كراهية لهم فالصراع في فلسطين ليس صراعا دينيا وإذا ما كانت الصهيونية وهي حركة عنصرية سياسية قد استعملت اليهود مادة لمشروعها فإن الفلسطينيين الذين طُردوا من أرضهم لم يحملوا اليهود تبعات ما جرى لهم ولم يعتبروهم أعداء لهم واقتصروا في خصومتهم على الصهاينة. لذلك نرى الكثير من يهود العالم يقفون مع الحق الفلسطيني وينددون بسياسات إسرائيل القائمة على التمييز العنصري.

لم يكن ذلك السلوك يعبر عن ذكاء فلسطيني خارق بقدر ما هو سلوك أملته طبيعة الصراع الذي لم يكن على أية حال صراعا دينيا. فعبر كل سنوات الكفاح المسلح التي أثمرت عن ارتقاء ياسر عرفات منصة الخطابة في الجمعية العامة للامم المتحدة لم نسمع أحدا من المقاتلين الفلسطينيين يذكر اليهود بسوء أو يردد أقوالا مأثورة تحث على قتلهم. كانت دولة إسرائيل هي العدو وكانت فلسطين هي العنوان السامي والهدف العظيم.

أما أن يتم استحضار خيبر وجيش محمد ولا تذكر فلسطين في هتافات البعض ممن صار يتصدر المشهد ويحاول القفز على كل الثوابت الفلسطينية فإنها ظاهرة دخيلة يجب التوقف عندها وتأملها بدقة والتعامل معها بحذر. من خلال تلك الظاهرة يمكننا أن نجد تفسيرا للرسالة التي وجهها زعيم حركة حماس اسماعيل هنية إلى المرشد الإيراني علي خامنئي باعتباره "زعيما للأمة". وهي رسالة تنطوي على تحد واضح لمشاعر الفلسطينيين الذين نكلت بهم إيران في العراق وسوريا وللعرب الذين ساهمت إيران في تدمير حياتهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

لقد وسم هنية الصراع مع الدولة العبرية بختم إيراني.

تلك جريمة يجب عدم التغاضي عنها والمرور بها بشكل عابر. فما انتهت إليه فلسطين وهي الموهبة والخيال لا يمكن تصديقه. فبعد أن صارت عنوانا لكدح إنساني من أجل الحقيقة يحصرها مجاهدو الإسلام السياسي في خندق صراع وهمي بين الإسلام واليهودية وليتربع خامنئي وهو رمز للارهاب العالمي على عرش خطابها الموجه إلى العالم.

شيء مؤلم أن تتحول فلسطين إلى رسالة تنتظر أن يبصمها الولي الفقيه بإبهامه. كانت تُسمى فلسطين/ صارت تُسمى فلسطين هي رسالة شعب حي إلى العالم. فلسطين هي رسالة النزاهة والعدالة والتسامح والحرية التي لا يليق بها سوى أن تُمهر بتوقيع شعبها العظيم.