"فلنصرع الفقراء" .. وهشاشة الانتماء

رواية الكاتبة البنغالية شيمونا سينها تواكب الظواهر المجتمعية والإنسانية.
ما يهمُّ الراوية هو الإنصهار في هويتها الجديدة وكتم مشاعرها المُتضامنة مع بني قومها
تكدس الأجناس المتعددة من خلفيات ثقافية ومعرفية مُتباينة والمشترك هو الحلم الأوروبي
الكاتبة تعتمدُ على التلميح أكثر لكن ما تتواردُ في إطار الرواية يؤكدُ غرابة الميول والأطوار لدي الشخصية الساردة

النزوح نحو البلدان الغربية من المواضيع التي تكتسبُ الإهتمام على جميع المستويات ويدور النقاش في الأوساط السياسية والثقافية عن تحدي إندماج الوافدين في موطنهم الجديد والآليات التي تحقق هذا الهدف ومن الواضح أنَّ الرواية تواكب الظواهر المجتمعية والإنسانية، وكانت الهجرة موضوعاً لعدد كبير من روايات الألفية الجديدة ويعزى ذلك إلى ازدياد أعداد طالبي اللجوء في المجتمعات الأوروبية وإستمرار موجة المهاجرين الذين يحدوهم الأمل بمصير أفضل لعبور ما يفصلهم عن الضفة الأُخرى غير أنَّ الإقامة في بلد آخر دونها الصعوبات كما لا يمكن إستبدال الهوية بأخرى طالما الأعراف والتقاليد مترسبة في شخصية المُغترب.
والمتأمل لصورة المغترب في الروايات الغربية يدركُ تصاعد المخاوف من الوافدين وما يحملونه من القيم المُناقضة مع المنظومة السياسية والإجتماعية فيما تذهب سرديات المتأرجحين بين الإنتماءات إلى رصد صعوبة تضايف الهويات وما يسفر عن ذلك من الأزمات الوجودية. 
وما تقدمُه الكاتبة شيمونا سيتها في روايتها "فلنصرع الفقراء" منشورات الجمل ينتمي لفصيل سرديات الهجرة حيثُ تتناول تجربة طالبي اللجوء وما يصبو إليه هؤلاء من الحصول على صفة المواطنة إلى جانب معاناتهم الحياتية إذ يتم إستغلال المُهاجرين بطرق مُختلفة.
عهدت الكاتبة للوسيطة بين الوافدين والقائمين على شؤون الهجرة في البلد المُضيف بمهمة السرد إذ تقومُ المترجمةُ بنقل حكايات القادمين حيث يكون الدافعُ للهجرة مختلفاً من شخص إلى آخر غير أنَّ ما يجمعُ بين المتفرقين في الشتات هو حلم الإستقرار وصناعة القصص للإبانة عن جدارتهم بحق اللجؤ. وتلمحُ الراوية في بداية العمل إلى التنوع القومي والديني للباحثين عن مستقبل واعد في بلاد الهجرة.

لم يكتمل حلم اللقاء مع لوسيا فخسرت صفة المواطنة بعد سنة من العمل في مكاتب اللجوء وغدت منزوية في السجن مرغمة على الإجابة لأسئلة السيد "ك". وما يوحي به هذا التحول هو هشاشة الإنتماء وصعوبة الإدماج في بوتقة هويات جديدة

لعبة الأدوار
ما يهمُّ الراوية هو الإنصهار في هويتها الجديدة وكتم مشاعرها المُتضامنة مع بني قومها وأنَّ ما يعتمل في أعماقها نقيض لما يبدو في التصرفات والسلوكيات. إذاً فإنَّ المهنية هي ما يجبُ أن تتصف به حيثُ تعتبر عملها رياضة بين اللغات ويشاركها كثيرُ من أبناء الجاليات الأخرى العمل في مجال الترجمة. ويوصفُ التجاورُ بين اللغات المتعددة بالمزيف كل شخص يحملُ عالمه على حد تعبير الراوية يصعبُ إختراقه.
أكثر من ذلك تنصرف عدسة الراوي إلى ما يسمى بالضاحية ويتم تصوير هيكلية تلك المناطق والأوضاع المزرية التي يعيشها سكانُها. وبهذا يقعُ عالم غارق في البؤس بجوار معالم الحضارة الباذخة. وهذا التناقضُ يتخذُ شكل الكوابيس في حياة المترجمة. إذ تتمُ إستعادة المشاهد المأساوية والرفاهية في آن واحد.
ويضعك السردُ أمام تكدس الأجناس المتعددة من خلفيات ثقافية ومعرفية مُتباينة والمشترك هو الحلم الأوروبي ويفتش كل من جانبه عن قصة تدعمُ ملفه. بهذا تتوالى الحكايات في سياق السرد وتصبحُ وظيفة الراوية ترتيب المواد التى تندس في إضبارات مكاتب الهجرة وما يفصحُ عنه الحوار المتبادل بين الراوية وصديقتها هو وجود من يدير عملية تهريب المهاجرين إلى بلدان أوروبية لتوفير يد عاملة رخيصة. كما تٌفبرك الروايات الجاهزة للبيع. وهذا يعني أنَّ هناك أطرافاً مُتشابكة المصالح في هذه الشبكة. 
والملفت في أجواء الرواية أن شخصياتها ينقصها العمق في تشكيلاتها النفسية والفكرية. لذلك لا يكون حضورها إلا عابراً في فضاء العمل ما عدا شخصية ضابطة الشرطة لوسيا التي تراقبها الراوية والحال هذه يُفهم بأنَّ هذا الإهتمام ما هو إلا تعبير عن الرغبة لدى المترجمة للتواصل الجسدي مع صديقتها وعناصر العلاقة بين الاثنتين تطفو على سطح السرد مع توالي الحكايات إذ تلاحقُ المُترجمة لوسيا بنظراتها، ولا تجدُ بديلاً في إقامة العلاقات الحسية مع الجنس الآخر لرغبتها الفائرة. على الرغم من عدم الإسراف في إيراد المواقف الحسية وتعتمدُ الكاتبةُ على التلميح أكثر لكن ما تتواردُ في إطار الرواية يؤكدُ غرابة الميول والأطوار لدي الشخصية الساردة.
هشاشة الإنتماء
محتويات هذا النص الروائي تهدفُ إلى الإبانة عن دور القصة في اكتساب هوية جديدة وإعادة بناء الكيان خارج البيئات الحاضنة لمرحلة النشوء عليه لا يمكنُ للمرءِ إنطلاق نحو مرحلة مختلفة دون حياكة قصص. لذا تنسابُ قصص النزاعات الدينية والثأر والإغتضاب والهروب من النظام العائلي المُختنق في أقسام الرواية. 
وما يثيرُ الشكوك بالنسبة للمهاجرين هو قدرة المترجم في رواية مأساتهم وتزدادُ نقمة طالبي اللجوء على الوسيط إذا كان الأخير من بني جلدتهم ويتنكرُ لجذوره. وهذا ما يتبدى في موقف الراوية التي تتجاهل رجلاً يتكلم لغتها وما يطلبُ سوى نصيحةٍ ليتمكنَ من ظفر بحق اللجوء. تتواترُ القصص التي يتوسلُ بها المُغتربون لكسبِ صفة المواطنة، ومن المعروف أنَّ قصة ضحايا الإغتضاب والنزاعات المذهبية هذا فضلا عن المُعارضة السياسية أكثر فاعليةً لإضفاء المشروعية على القضية. 

The Bengali Novel
إنشطار شخصية اللاجيء 

وبما أن الكاتبة من أصول بنغالية هندية فمن الطبيعي أن توردَ صاحبة "منبوذ بلا وطن" نتفاً من تاريح بلدها الذي كان مسرحاً لصراعات على خلفية دينية أدت إلى وقوع الإنقسامات في النسيج المُجتمعي لافتةً إلى دور الإستعمار في تفاقم الأزمة. 
لا تخلو الروايةُ من النكهة الفكاهية المبثوثة في قصص المُهاجرين كما أن تناوب السرد والحوار والوصف على مقاطع الرواية يزيدُ الأسلوب تشويقاً وخفةً وذلك لحسن توظيف التقنيات بما يخدمُ حركة الرواية، والتدوير ملمح آخر من بنية النص إذ يبدأُ القسم الثاني بإستجواب شخصية المترجمة مع الإشارة إلى تبادل الأدوار وضرب رأس أحد الأشخاص بزجاجة الخمر وتُفهم دلالة هذه العبارات في نهاية الرواية حين تسترجعُ الراوية لحظة ذهابها إلى الموعد مع لوسيا فإذا برجل داخل عربة القطار يثير حنقها بسيل من الشتائم والعدوانية الأمر الذي يدفع بها لضرب الأخير، فبالتالي لم يكتمل حلم اللقاء مع لوسيا فخسرت صفة المواطنة بعد سنة من العمل في مكاتب اللجوء وغدت منزوية في السجن مرغمة على الإجابة لأسئلة السيد "ك". وما يوحي به هذا التحول هو هشاشة الإنتماء وصعوبة الإدماج في بوتقة هويات جديدة. 
يذكر أن تنقل الراوية من الشيشانية بأنَّ المستقبل بين يدي الكلمات وفي جوف الحكاية بمثابة الفكرة الأساسية لهذا العمل. وما يجدر بالذكر في هذا المقام أن عدداً من الروايات العربية قد عالجت ثيمة اللجوء والهجرة لعلَّ من أهمها رواية "سان دني" للروائي التونسي علي مصباح الذي تتقاطع خطوط عمله مع ما ضمته رواية "فلنصرع الفقراء"، كذلك فإنَّ الروائية السورية مها حسن قاربت حساسية المغتربين وإنشطار شخصية اللاجيء بين بيئتين في روايتها "مترو حلب" فإن بطلة الرواية "سارة" لا تنفصل عن مناخ حلب، وغالباً ما تختلطُ بين فضاءات مدينتين، فبينما تمشي في شوارع باريس تتذكرُ معالم حلب، بل تستنطقُ حلبَ قائلة لعاصمة النور «كنتُ مُكتظةً بالبشر والحب قبل أصير الآن ركاما وأنقاضاً ودماً وكوابيس».